اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

حكاية جباري… وحكاية الجنوب الذي لم يُحكَ: كيف يُروى التاريخ عندما يغيب السياق؟

 

كتب/ هشام صويلح

 

ماذا لو كانت “حكاية” جباري مجرد قناع لحكاية لم يُرد لها أن تُروى؟

 

ماذا لو لم تكن “حكايته” مجرد ذكريات شخصية… بل مشروع محو؟

ماذا لو كان “لم نجد مطعماً” ليس وصفاً لواقع… بل استعارة لغياب الإرادة في الفهم؟

ماذا لو كان صمتُه عن ثورة الحراك، وعن انتصار المقاومة… أبلغ من كلامه؟

والأهم: ماذا لو كانت “حكايته” — بكل تفاصيلها — مجرد غطاء لحكاية الجنوب الحقيقي… الذي لم يُرد له أن يُحكى؟

 

هذا ليس تحليل خطاب…

إنه تفكيك لسردية. سردية تُروى ببراعة السارد، لكنها تُبنى على غياب السياق، وطمس الخلفية، وتجاهل البُنى.

عبد العزيز جباري لا يختلق الوقائع… لكنه يُعيد تشكيلها. لا يُنكر الحقائق… لكنه يُفرغها من سياقها. لا يكذب… لكنه يُسطّح — وهو أخطر.

هو فقط يختار ما يُروى.

ويُخفي ما يُهدّد.

ويُسطّح ما يُعقّد. ليبقى الجنوب — في “حكايته” — مجرد خلفية باهتة…

ليس شريكاً في التاريخ.

ولا صانعاً للانتصار. ولا حاملاً لمشروع.

 

“لم نجد مطعماً” — عندما يُختزل التاريخ إلى لحظة جوع

 

تبدأ “حكاية” جباري — كما يرويها — بلحظة بسيطة:

“لم نشاهد سوى قبور الشهداء والشعارات الاشتراكية المتطرفة والبؤس، حتى يقول ‘لم نجد مطعماً نأكل به”.

 

هنا، لا يبدأ السرد بتحليل سياسي…

بل بتجربة حسية: الجوع.

ومن الجوع… ينتقل إلى الحكم: بؤس.

ومن البؤس… إلى الاستنتاج: فشل.

ومن الفشل… إلى التعميم: شعب غير منتج.

 

لكن… ماذا لو نظرنا إلى ما وراء المطعم المفقود؟

ماذا لو تجاوزنا “اللحظة” ودخلنا في السياق؟

– في العام 1989، كان في عدن:

– 10 مستشفيات حكومية تقدم خدمات مجانية.

– جامعة، وعشرات الكليات، ومدارس داخلية تستوعب عشرات الآلاف.

– شبكة مواصلات عامة منظمة.

– مصانع نسيج و ومواد غذائية.

– تعاونيات زراعية وسمكية تغطي احتياجات السكان.

 

لكن جباري — كسارد — لا يرى هذا.

لأن السرد الذي يبنيه لا يحتاج إلى السياق…

يحتاج فقط إلى اللحظة الرمزية:

“لم نجد مطعماً”.

 

وهكذا… يُبنى التاريخ على انطباع عابر…   لا على واقع مُؤسساتي.

ويُحكى الجنوب كـ”قصة فشل”…

لا كـ”مشروع دولة”.

“أكثرهم غير منتجين” — عندما يُحوَّل الإنجاز إلى عيب

 

يستمر جباري في سرده:

“أكثرهم يعتمدون على الدولة… لا ينتجون شيئاً”.

هنا، لا يتحدث عن اقتصاد…  بل عن قيمة أخلاقية: الإنتاج.

لكن ما هو “الإنتاج” في ثقافة جباري؟

ليس التعليم.

ليس العلاج.

ليس الإدارة.

ليس الصناعة المنظمة.

“الإنتاج” عنده — كما في ثقافة النخبة الشمالية — يعني:

– من يحمل سلاحاً.

– من يسيطر على سوق.

– من يوزع الغنائم.

– من يفرض إتاوة.

 

أما الجنوب — بمؤسساته — فقد كان يُنتج:

– معلمين.

– أطباء.

– مهندسين.

– فنيين.

– قضاة.

– موظفين.

– جنوداً مدربين.

نحو مليون مواطن — بين معلمين وأطباء ومهندسين وعسكريين وفنيين — كانوا منخرطين في قطاعات إنتاجية وخدمية منظمة في الجنوب قبيل العام 1990، وفق الإحصاءات الرسمية والتقديرات الموثقة.

لكن جباري — كسارد — لا يرى هذا “إنتاجاً”.

لأنه لا يرى في الدولة إلا موزعاً للإعانات…  لا بانياً للمجتمع.

 

وهكذا… يُحوّل الإنجاز إلى عيب.

والخدمة إلى كسل.

والاستقرار إلى ركود.

لأن السرد لا يحتمل أن يكون الجنوب نموذجاً بديلاً…  لابد أن يكون قصة فشل.

 

“الجنوبيون كانوا يقتلون الشماليين!” — عندما يُقلب الضحية إلى جلاد

 

في لحظة درامية من “حكايته”، يقول جباري:

“أي سياسي شمالي كان يعمل ضد الوحدة كانوا يقتلوه… كانوا يصفوه”.

هنا، لا يقدم معلومة…  بل يُعيد كتابة التاريخ.

يحوّل الجنوب — الضحية التي اغتيل منها 156 قيادياً على يد أجهزة صنعاء — إلى جلاد.

ويحوّل الشمالي — الذي قاد حرب 1994 ثم عاد في 2015 مع الحوثيين — إلى شهيد وحدة.

 

لكن ماذا يقول السياق الذي يُغفله جباري؟

– اغتيال عمر الجاوي (محاولة).

– اغتيال حسن الحريبي.

– اغتيال ماجد مرشد وهاشم العطاس.

– عشرات القادة المدنيين والعسكريين الذين سقطوا برصاص أجهزة صنعاء…

ليس لأنهم ضد الوحدة…

بل لأنهم من أجل دولة حقيقية.

 

لكن جباري — كسارد — لا يحتاج إلى هذا السياق.

فـ”الحكاية” التي يبنيها لا تسمح بوجود ضحايا جنوبيين…

فقط “ضحايا وحدة” شماليون.

وهكذا… يُبنى التاريخ على سردية واحدة…

تُبرر الماضي…

تُشرعن الحاضر…

تُجهض المستقبل.

 

الصمت عن الحراك والمقاومة — عندما يصبح الغياب جزءاً من السرد

ربما كان الأبلغ في “حكاية” جباري… هو ما لم يُقل.

في أربع حلقات — استغرقت ساعات — خُصص أقل من خمس دقائق للحديث عن:

– ثورة الحراك السلمي (2007–2015).

– المقاومة الجنوبية وتحرير عدن (2015).

– انتصار الجنوب على تحالف الحوثي-صالح.

– استقبال 6 ملايين نازح — بينهم من حاربوا الجنوب مرتين!

 

هذا الصمت ليس عفواً…  إنه جزء من السرد.

فجباري — كسارد — لا يمكنه أن يروي هذه الحكاية…

لأنها تُثبت أن الجنوب:

– لم يمت.

– لم يستسلم.

– لم يُهزم.

– بل انتصر… وبنى… واستقبل… وحمى.

 

ورواية هذا… تعني انهيار السردية التي يبنيها:

سردية “الجنوب فاشل… محتاج… غير منتج… يجب إعادته للحظيرة”.

 

ولهذا… يُصمت.  ليس لأنه نسي…

بل لأنه يخشى أن يُسمع.

يخشى أن يُقال:

“الجنوب لم يكن بحاجة إلى مطعم…

كان بحاجة إلى من يرى دولته… لا جوعه”.

 

الندم — عندما يكون الخوف من المستقبل أقوى من الندم على الماضي

 

يُلمّح جباري — في سياق حديثه — إلى نوع من “الندم”:

ندم على مواقف…

ندم على خيارات…

لكنه لا يندم — كما يتوقع المرء — على الظلم أو التهميش أو الاغتيالات…

 

ندمه — إن وُجد — هو ندم سياسي:

ندم على أن الجنوب خرج عن السيطرة.

ندم على أن المقاومة انتصرت.

ندم على أن عدن لم تعد مجرد مدينة… بل عاصمة فعلية.

 

هذا الندم لا علاقة له بالضمير…

بل بالخوف. خوف من أن “اليمن الكبير” — الذي يدور حول صنعاء — لم يعد موجود.

خوف من أن هناك “حكاية أخرى”…

حكاية الجنوب.

حكاية الدولة.

حكاية المؤسسة.

حكاية الانتصار.

 

الحكاية التي لم تُحكَ… هي الحكاية الحقيقية

 

عبد العزيز جباري — كسارد — أتقن فن “الحكاية”.

حكاية تبدأ بلحظة… وتنتهي بحكم.

حكاية لا تحتاج إلى سياق… لأن السياق يُفسد “الدراما”.

حكاية تُرضي المستمع… لأنها تُبرر له ما يعرفه سلفاً.

 

لكن… هناك حكاية أخرى.

حكاية لم يُرد لها أن تُروى.

حكاية الجنوب الحقيقي:

– بمؤسساته.

– بنضاله.

– بانتصاره.

– بمشروعه.

 

هذه الحكاية لا تبدأ بـ”مطعم مفقود”…

بل بـدولة وُجدت.

ولا تنتهي بـ”شعب غير منتج”…

بل بـشعب حرر أرضه.

 

جباري — كسارد — لا يستطيع رواية هذه الحكاية…

لأنها لا تخدم سرديته.

ولا تبرر مواقفه.

ولا تُشرعن ندمه.

 

لكن التاريخ… لا يُبنى بالسرد.

يُبنى بالفعل.

وبالذاكرة.

وبالانتصار.

 

فلتُروى “حكاية جباري”…

فـ”حكاية الجنوب” — التي لم يُرد لها أن تُحكى — هي التي ستبقى.

 

إشارة موجزة:

استندت هذه المادة في إطارها التحليلي الأولي إلى ملاحظات وتحليلات أولى طرحها الكاتب والسياسي الجنوبي (د. عيدروس النقيب)، لكنها توسعت في التفكيك والسرد ضمن منهجية صحفية مستقلة تهدف إلى بناء وعي تحليلي أعمق للخطاب السياسي.

 

حاشية:

تشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (عدن، 1988) إلى أن إجمالي القوى العاملة المسجلة في القطاعات المدنية بلغت 768,000 موظف وعامل. وعند إضافة العسكريين (~80,000) والعاملين في المؤسسات الحزبية والمشاريع المشتركة (~60,000)، يصبح المجموع التقديري قرابة المليون، وهو ما يتطابق مع تقديرات المؤسسات الدولية والباحثين الاقتصاديين لعام 1989.

 

المصدر: التقرير الإحصائي السنوي 1988 — جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية — عدن.

زر الذهاب إلى الأعلى