في المصحة

صالح علي بامقيشم
قلبي مضخة كبيرة من الوهم ، وذاكرتي تتثاءب وتنام ولاتستيقظ الا نادرا ، اشعر ان الحياة عربة قديمة استهلكت مبررات الاستمرارية ، بعد محاولتي الفاشلة للانتحار قررت ان اعيد الكرة ، غيوم سوداء لاحت امام ناظري واطبق الكون في ظلام حالك ، استيقظت في مشفى للأمراض النفسية وثلاثة من الممرضين يمسكون اطرافي ..آنذاك كانت ممرضة بدينة تفرغ في جسدي ست حقن من اقوى انواع الكيماويات .
مع هذا بقي جسدي النحيل ينتفض بتشنجات متتالية ، قضيت اربعة عشر يوما محبوسا في غرفة لايزورني فيها حتى الريح ، في اليوم الخامس عشر كنت اصيح واتالم وضربت راسي الى الحائط فجاء عدد من الممرضين وقيدوني الى السرير ، كانت الحياة نوع من العذاب ياصديقي ..وكان قلبي يتحطم بالتدريج ، وكلما حاولت ان اتذكر تهرب الاحداث والاسماء وينحرف السيناريو وتتداخل الاشياء في راسي واعود لاهذي .
كأن ” القدير ” اراد ان يسلبني راحتي وينتزعها كنوع من العقاب ، ذات يوم احببت رائحة كثيفة عصفت بداخلي لايام ثم انطفا قلبي كشمعة اخرستها رياح هوجاء حينها نسيت كل شيء .
كنت اقف امام نافذة الغرفة 124 بالمصحة النفسية واصيح ” انا لست مجنونا ” واظل اعيد العبارة واكررها حتى ارتخت حبالي الصوتية وفقدت النطق لايام .
في الاسبوع الخامس بدات اخرج الى الحديقة لنصف ساعة انظر الى الشمس والازهار واراقب الطيور وهي تحلق عاليا ..عاليا جدا حتى تختفي عن ناظري ، بدأ الاطباء يخففون عني القيود ويسمحون لي بالحديث مع بقية المرضى مع هذا فان كتلة السواد بقيت قاطنة في صدري .
جاء اخي الى المصحة وتبادل الحديث مع المدير وبعد دقائق جاء واخذني الى الخارج ..وطأت بقدمي الشارع وانا انظر باندهاش الى السيارات والناس والطلاب وقد عادوا لتوهم من مدارسهم .
وفي غضون يومين حضرت عدة جلسات امام قاريء كان يتلوا ايات القرآن ويضغط على حنجرتي حتى شعرت بالاختناق . في المساء شعرت بتشنجات اوقعتني ارضا ولم اعد اتحكم بلعابي الذي كان يسيل على جانب شفتي وكان بكاء امي وهي تمسك بيدي يزيدني شقاء ، ذبلت عيني وكنت اتنفس بصعوبة كأن الهواء قد شفط من كوكب الارض نهائيا ، اعادوني الى المصحة ، وذات يوم استيقظت من النوم ويدي اليسرى ملفوفة بضمادات وشاش ابيض ، شددوا المراقبة وقيل لي : لقد كسرت النافذة وقطعت وريد يدك ..حاول ان تهدأ !
في سبتمبر 2026 جاء اخي ومعه ورقة من المحكمة وقال زوجتك رفعت دعوى امام القضاء تطلب الطلاق وقد استلمت الاشعار..لم اهتم للامر وكنت اشعر ان الامر لايعنيني ..
لازلت في المصحة ، اقف امام النافذة وانظر الى السماء ، علي ارى الطيور وهي تحلق وتختفي في الافق البعيد .
صالح علي بامقيشم