اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.
مقالات الراي الجنوبي

الجزء الأول: سقوط أمي ومواجهة الخوف

كتب/ بسمة نصر

 

كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة والنصف حين شق صمت البيت صوت أمي يئن من الألم: “آآه…”، ثم انقطع الصوت فجأة، تاركاً فراغاً مخيفاً. شعرت بأن الأرض تموت من تحتي، هرعت بخطواتي المرتجفة، فإذا بها ممددة على الأرض، جسدها ساكن وعيناها مغلقتان.

حاولت أن أرفعها، لكن ضعفي خذلني. ناديت أختي بكل قوتي:

برهااااان! لقد وقعت أمي!

ركضت أختي إلي، لكنها وقفت مشدودة، كأنها تجمدت، لا تنطق ولا تتحرك.

اقتربت منها وبقرصتها:

أفيقي، ليس وقت الجمود! أمي على الأرض!

استفاقت اختي من ذهولها، وحاولنا معاً رفع أمي، لكن الجسد المرهق كان أثقل من قدرتنا.

لجأنا إلى حيلة: جلبنا “طراحة”، مددناها على الأرض، وأدرنا أمي بحذر حتى تكورت بداخلها، ثم أخذنا نسحبها بخطوات مرتعشة، ببطء يكاد يقتلنا، حتى أخرجناها من دورة المياه، حيث كانت على وشك الوضوء، لتستعد لصلاتها.

اتصلنا بالجيران، دقائق قليلة وإذا بهم أمام بابنا، ومعهم السيارة. ارتدت أختي جلابية ومقرمة على عجل، وأنا بملابس الصلاة التي لم أغيرها. لم نستوعب ما يحدث إلا حين وجدنا أنفسنا داخل أسوار المستشفى.

لكن المستشفى لم يحتضن أمي مباشرة، وقفنا أمام باب الطوارئ، ليواجهنا الموظف ببرود:

يجب دف رسوم السند أولاً.

كانت كلمات كالصاعقة. صرخت أختي بعزم يائس:

أمي أولاً… ثم كل شيء آخر!
ولما أداروا ظهورهم، غضبت اختي، وأشهرت هاتفها توثق المشهد:

وقال: سأشتكي بكم! أمي بين الحياة والموت وأنتم تحصون الأوراق!

حينها ظهر طبيباً بهندامه المعتاد. تقدم وسألني:

ما الأمر؟
أجبت بصوت متقطع:

كانت تتوضأ… وفجأة سقطت، لا أدري كيف.

اقترب منها، فحص عينيها، فإذا بهما تنقلبان إلى الوراء. أمر الممرضة بإدخالها فوراً. كتب ورقة وناولني إياها:

اذهبي للصيدلية، اشتري الدواء حالاً.

ركضت كأنني أركض خلف الحياة نفسها. تفاجأت حين دفعت ثمن الإبرة: خمسة وعشرون ألفاً. لم أعترض، لم أسأل، كل ما أردته أن أرى أمي تعود إلي.

أخذت العلاج مسرعة، والممرضة غرست الإبرة في ذراعها. شيئاً فشيئاً، بدأت أمي تفتح عينيها، الأولى ثم الأخرى، كطفل يطل على العالم لأول مرة. تنفست بعمق، كأنها تستعيد روحها التي تاهت للحظة.

عدت مسرعة للطبيب:

وقلت ڵـهٍ: لقد صحت امي… تعال!
قال بهدوء:

سأمر بعد قليل.
لكنني مسكت بيده وسحبته

جاء معي صامتاً، فحصها من جديد، وضع السماعة على صدرها وظهرها، ثم ابتسم ابتسامة مطمئنة:

بخير الآن.

أختي التفتت إلي، عيناها تفيض بالدموع، وأنا أومئ برأسي مطمئنة: “اهدئي”.

فتح الطبيب دفتره يسجل ملاحظاته، ثم سأل أمي:

ماذا حدث يا حجة؟
أجابت بصوت متقطع:

كنت أتهيأ للصلاة… توضأت، وإذا بقدمي تنزلق فوق الصابون… لم أشعر بشيء بعدها.

حاولت النهوض لكنها تراجعت:

رأسي يؤلمني… وحوضي كذلك.

كتب الطبيب تعليماته، ثم قال لي:

اذهبي إلى المختبر، اسحبي عينة دم، وأحضري النتيجة لنكمل التشخيص.

وقبل أن أخرج، قاطعت أختي الدكتور بصوت خافت:

دكتور… أمي جائعة، هل يمكن أن تأكل؟
ابتسم برفق وقال:

نعم، ولكن بعد أن نسحب الدم أولاً.

وهكذا، بين دمعة وابتسامة، أدركت أننا خرجنا من بوابة الموت، وعدنا إلى الحياة.. يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى