الشكل جماعي والمضمون فردي.. هل يفقد مجلس القيادة شرعيته؟

النقابي الجنوبي/خاص
تمهيد: حين يُصبح الشكل جماعيًا والمضمون فرديًا
منذ الإعلان عن تشكيل “مجلس القيادة الرئاسي” في 7 أبريل 2022، بدأ أن اليمن تتجه نحو مرحلة جديدة قوامها التوافق والشراكة، خاصة بعد أن نقل الرئيس عبدربه منصور هادي كامل صلاحياته إلى المجلس، وأعفى نائبه علي محسن الأحمر، في خطوة أُعلن عنها باعتبارها تمثل تحوّلًا جوهريًا في بنية السلطة التنفيذية.
لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات، ظهرت فجوة مقلقة بين الصيغة التي نص عليها القرار الرئاسي، وما تُنتجه الممارسة الفعلية على الأرض، سياسيًا وإعلاميًا وقانونيًا. تحوّلت مفاهيم الجماعية إلى مجرد ديكور، بينما أُعيد إنتاج السلطة الفردية تحت مسميات جماعية، في عملية لا تخلو من التحوير المقصود، كما تشير وقائع متعددة وشهادات سياسية جنوبية.
أصل الحكاية: ما الذي يقوله القرار الرئاسي؟
ينص القرار الجمهوري الصادر في 7 أبريل 2022، على أن “مجلس القيادة الرئاسي” يتكوّن من رئيس وسبعة أعضاء، يتولون جميعهم معًا صلاحيات رئيس الجمهورية، بما في ذلك مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية، والتشاور الجماعي في القرارات السيادية. كما حدّد القرار آلية التشاور مع أعضاء المجلس في ملفات حساسة مثل تعيين المحافظين ومدراء الأمن والقضاة ومحافظ البنك المركزي، مع التنصيص على خيار الاحتكام إلى تصويت داخلي في حال غياب التوافق.
هذه الصيغة تمثل مبدأ “المسؤولية الجماعية” في الحكم، وتفرض على رأس المجلس أن يكون منسّقًا وممثّلًا، لا صاحب صلاحية مطلقة. لكن على خلاف هذا التصور، شاعت ممارسات وقرارات تُنسب حصريًا إلى “رئيس مجلس القيادة الرئاسي” دون أن يُرفق بها أي توقيع أو تصريح من نوابه، بل وصدرت في بعض الأحيان دون تشاور مسبق، وفق تقارير إعلامية وسياسية متطابقة.
تحوير المفاهيم: من “مجلس القيادة” إلى “فخامة الرئيس”
أحد أبرز أوجه الأزمة ظهر في الطريقة التي يتم بها التعاطي الإعلامي مع بنية المجلس. فبدل أن يُوصف رشاد العليمي، رئيس المجلس، بلقبه الرسمي “رئيس مجلس القيادة الرئاسي”، باتت وسائل الإعلام اليمنية الرسمية، وخاصة تلك التي تعمل من الداخل أو تحت غطاء رسمي خارجي، تتحدث عن “فخامة الرئيس” بوصفه رأسًا للدولة، منفردًا بالصلاحيات والرمزية.
هذا التوصيف الإعلامي لا يمثل مجرد خلل لغوي؛ بل يعكس توجّهًا لإعادة ترميز المجلس إلى رئاسة فردية، تتجاوز روح النص القانوني. ويؤدي ذلك إلى تغييب متعمّد لدور الأعضاء السبعة الآخرين، وتقويض لمبدأ التوازن داخل المؤسسة التنفيذية.
اللافت أن هذا التوجه تزامن مع استمرار تعطيل مؤسسات الإعلام الرسمي بفعل من وزير الإعلام معمر الإرياني. وقد ساهم هذا الفراغ الإعلامي في إبقاء السيطرة بيد قنوات معينة تتبنى خطابًا يعيد إنتاج المركزية السياسية تحت قشرة جماعية.
قرارات دون توقيع.. وديكور تشاوري
لم يكن غريبًا أن تصدر جملة من القرارات والتوجيهات المهمة باسم “رئيس مجلس القيادة الرئاسي”، دون أن تُرفق بأي إشارة إلى مناقشات داخل المجلس، أو تصويت داخلي، أو حتى تصريحات إعلامية من النواب.
هذا الأسلوب في إدارة السلطة أثار قلق قوى سياسية في الجنوب، خصوصًا مع تراكم الحالات التي لم يظهر فيها أثر لبقية أعضاء المجلس في التوجيهات المرتبطة بتعيين قيادات أمنية أو إدارية في بعض المحافظات. بل وتوسعت الشكوك بعد أن أصبح الحديث عن “فخامة الرئيس” حاضرًا بقوة، في حين غاب الحديث عن آلية صنع القرار الجماعي أو مواقف النواب.
ردود الفعل الجنوبية: تحذيرات مبكرة ومستمرة
لم تمر هذه الاختلالات دون ردود فعل واضحة من قبل القوى الجنوبية. فقد أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو أحد مكونات المجلس الرئاسي، رفضه المبكر لأول وثيقة قانونية صادرة عن المجلس بعد تشكيله، محذرًا من تجاوز مبدأ الشراكة والانفراد بالقرار.
كما صدرت عدة تصريحات سياسية جنوبية تعبّر عن استيائها من تجاهل دور المجلس الجماعي، وتصف سلوك الرئيس العليمي بأنه يعيد إنتاج النموذج الذي فشل في فترات سابقة، عبر مركزة القرار واحتكار التمثيل السياسي.
الانتقالي وغيره من الفاعلين في الجنوب لم يعترضوا على وجود شخصية تمثل المجلس، لكنهم انتقدوا بشدة التوسّع في تأويل ذلك التمثيل ليشمل الصلاحيات المطلقة والتحدث باسم الجميع دون مشاورة أو توافق.
بين الصلاحية والشرعية: خلل مركزي في الأداء
يطرح هذا الوضع سؤالًا سياسيًا مهمًا: هل ما يمارسه رأس المجلس اليوم يستند إلى صلاحية قانونية، أم إلى شرعية إعلامية؟
الفرق بين الأمرين حاسم؛ فالصلاحية تستند إلى نصوص وآليات وتشاور، بينما الشرعية الإعلامية قد تُبنى فقط على تكرار الألقاب في نشرات الأخبار ومقدمات البرامج. ما يحدث فعليًا هو أن الخلط المتعمد بين المفهومين سمح بخلق سلطة ضمن السلطة، دون إطار واضح للمساءلة أو التصحيح.
ويكمن الخطر هنا في أن تُستعمل الرمزية الرئاسية في تعيينات وتوجيهات قد لا تلقى توافقًا داخل المجلس، مما يفقد المجلس ذاته قيمته كمؤسسة تمثيلية، ويحول أعضاءه إلى ظلال سياسية لا تملك قرارًا ولا تأثيرًا.
نحو لحظة الغروب: هل يفقد المجلس مبرر وجوده؟
في ضوء هذا المسار، تلوح في الأفق لحظة حاسمة: لحظة غروب محتمل للمجلس بوصفه إطارًا سياسيًا جامعًا. فكلما استمر تهميش البنية الجماعية، وواصل الإعلام الرسمي ترسيخ صورة الرئيس الفرد، كلما تآكلت شرعية المجلس نفسه، وبات مرشحًا لأن يُطوى ملفه تحت عنوان العجز عن إدارة التوازن السياسي.
هذا التحذير لا يعني أن الانهيار حاصل الآن، لكنه وارد في أي لحظة إذا لم تُراجع الآليات وتُضبط الخطابات، ويُعاد الاعتبار لدور نواب الرئيس كمكوّن أصيل في صناعة القرار.
خاتمة: الإصلاح لا يزال ممكنًا
رغم كل ما سبق، ما يزال بالإمكان تصويب المسار، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لتفعيل الآليات الجماعية وإعادة النظر في الخطاب الإعلامي الموجَّه للرأي العام.
فالحفاظ على مجلس القيادة الرئاسي كمؤسسة سياسية فاعلة يتطلب احترام مبدأ الشراكة، والتمييز الصارم بين التمثيل والتفرد، وبين الشرعية القانونية والرمزية الإعلامية.
وما لم يتحقق ذلك، فإن شمس هذا المجلس، كما يبدو في الأفق، قد تغرب قبل أوانها، مخلفة وراءها فشلًا جديدًا في محاولة الترميم من بوابة الجماعة، لا من حفرة الفرد.