اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

القاضي أبو العُرِيف الفشفشي

علي محمد سيقلي

كان يا مكان، في غرائب الزمان، قاضٍ مشهور بسرعة البديهة، وأقصد “البديهة التي تسبق الرصاصة” لا يسمع ولا يحقق، بل يكتفي بأن يرى ملامح المتخاصمين ليعرف من “الظالم” ومن “المظلوم” على ذمته.
جاءه ذات يوم رجل عجوز وإمرأة حسناء يتخاصمان على قطعة أرض. ما كاد القاضي يراهما حتى أشار بعصاه على الرجل وقال، أنت الظالم، وأنت المفتري والأرض لا هي أرضك ولا حق أبوك.. قال الرجل المصدوم، يا مولانا، إسمح لي أن أشرح لك القصة، وأريك ما يثبت أحقيتي في الأرض، وشهودي من أهل القرية.
رد القاضي بثقة، لا داعي، أنا أفهم من الوجوه، وأنت وجهك “وجه عري مخبازة”.وخرج الحكم ممهورا بختم المحكمة، وعاد المظلوم مكسور الخاطر، لا لشيء إلا لأن القاضي قرأ وجهه بالمقلوب. وعاشت القرية بعدها في حيرة، ما الفرق بين القاضي والساحر؟ واليوم… ما أكثر “قضاة” زماننا، حكام، مسؤولين، إعلاميين، وحتى بعض رواد مواقع التواصل، يحكمون قبل أن يسمعوا، ويقررون قبل أن يعرفوا، ويُدينون قبل أن يتأكدوا. يكفي أن تكتب منشوراً أو تشارك صورة، حتى يخرجوا لك بـ”فتوى” نهائية “قاطع مقطوع” أنت خائن، أو مناضل قدم شهداء “مع أنه وحيد أمه وأبوه”، أو عميل، أو قديس، على حسب “شكلك ومظهرك” أو “شكل كتابتك”.. صارت أحكامهم مثل محكمة القاضي الفشفشي لا قائمة على بينة، ولا احترام لحق الدفاع، ولا حتى فرصة للمتهم أن يفتح لقفه، لأن الحكم معلب وجاهز قبل الدعوى. والعبرة؟ في زمننا هذا، ما أخطر أن تلاقي مصيرك عند قاضٍ أهبل، أو مفسبك حمار، يحكم قبل أن يسمع، لأنه سيحكم عليك أولاً، ثم يبحث عن التهمة لاحقاً.

ماذا اعددت لنفسي:
وفي مقالة له قال الكاتب علي سيقلي: منذ أعوام، وأنا أعيش داخل هذا الكائن الغريب المسمى “أنا” أرافقه في كل رحلاته، من الأمل إلى الإحباط، ومن التفاؤل المشروط إلى التشاؤم المدروس، ومن الحماس الصباحي إلى البلادة المسائية. ورغم طول العِشرة بيني وبيني، ما زلت لا أفهمني. سألتها ذات يوم، ماذا أعددتُ لكِ أيتها النفس الأمارة بالسوق؟
أجابتني بعد أن شربت شاي مزاجها الثقيل، “عدة قناعات منتهية الصلاحية، ومجموعة أحلام مؤجلة، وبعض الطموحات المنقرضة، وباقة أعذار متجددة”
أؤمن أن الحياة الواقعية لا تحتاج إلى دراسة جدوى، بل إلى مزاج عال العال وفنجان شاهي عدني خالٍ من الفلسفة والتنظير.
لكن مزاجي متقلب، مثل جدول ساعات إنطفاء الكهرباء، غامض، ولا يُصرف في وقته. مرة أريد أن أصبح رجلا ناجحا له هيبة قلم، وقرار رسالة سامية، ومرة أكتشف أن كل ما أريده فعلا هو زاوية هادئة، في ركن قصي من البيت، و”واتساب مغلق”، ومساحة فراغ واسعة، أحدث فيها نفسي اللوامة، عما اقترفته أيام الطيش، من معصية لمجالستي معظم المخزنين.
أما عن علاقاتي بالناس، فهي مثل شبكة النت في البلاد، إما مقطوعة، أو موصولة بلا رقيب أو حسيب.. أنا اجتماعي حسب عدد ساعات النوم، كريم إذا كنت شبعان، لطيف إن لم يُطلب مني شيء، ومتسامح حتى أول صدمة، وبعدها أتحول إلى كتاب مغلق بختم “اقرأني إن استطعت”. وتحت عنوان “خساراتي المدروسة” كنتُ أظن أنني سأخسر علاقاتي إذا خنت، أو كذبت، أو فشلت في الوفاء بوعودي، لكن الحقيقة كانت أكثر دراماتيكية، خسرتهم جميعًا، لأنني “لا أحب القات، والدخان يزعجني”يا للعار، يا للخيانة الكبرى، من يرفض “جلسة قات” صار خارج التغطية، ومن لا يشعل سيجارة صار مشبوها، ومن لا يعرف مزاج “شمة الحوت” صار بحكم المنبوذ”. كنتَ تظن أنك كلما اقتربت من الناس أكثر، أحبّوك، فإذا بك تكتشف أنك تقترب فقط من سحابة دخان، وأعواد سم، وأحاديث لا تنتهي عن لا شيء.
تجلس معهم وأنت نقي فيشعرون بك كأنك وصمة صحية في سجلهم الطبي. تعتذر عن حضور جلسة القات، فيشعرون أنك خنت الميثاق الاجتماعي، والرابط الأخوي، والعلاقة الميتشجرتية.الآن، أعيش وحيدًا، نظيف الفم، ثقيل الظل، أشرب القهوة اليافعية بدون “معسّل”، وأتنفس هواءً بلا نيكوتين، لكنهم لا يرون هذا تحسنًا، يرونه تمردًا على منظومة “العلاقات المخدرة”.
ومع كل هذا، أضحك. فقد اكتشفت أن أغلب العلاقات كانت مبنية على “نفس” مشترك، لا على نفس طيّب.. عن نفسي، أعشق العمل حدّ الجنون، أنا ذلك الكائن الغامض الذي يستيقظ مبكرًا عن طيب خاطر، يصل قبل الموعد، يحترم الجدول، ويعتقد بكل سذاجة، أن “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعوا حافزك” لكنني اكتشفت أن في محيطي، الوقت مثل “اللبانة” يُمضغ ويُعاد مضغه حتى يتعفن.. ألتزم بالوعد كأنني تاجر من تجار حضرموت زمان، وأحترم المواعيد كأنني مرشح لجائزة “المزايد” للانضباط. أكتب الملاحظات، أرتب المهام، أضع منبهين لكل موعد، ثم أجلس وحيدًا في القاعة، لأن الآخرين يعتقدون أن “الساعة 10″ معناها ” بداية الدوام.
أحيانًا أشعر أنني موظف بنظام أوروبي،أعيش في بيئة عملية تدار بروح المقهى الشعبي، نقاشات جانبية تبدأ أثناء العمل، وتنتهي بإنتهاء الدوام الرسمي، ومواعيد يتم تحديدها حسب المزاج، وقرارات إرتجالية تتخذ بناءً على موقف عابر، أو فكرة طارئة. وحين أقول للناس: “أرجو الالتزام”، ينظرون إليّ كأنني أحاول إدخال، الشيوعية، الاشتراكية في جلسة صفاء، أو كأنني أطالبهم بشهادة ISO في دولة تعتبر الـWi-Fi اختراعًا خبيثا، لا يمت للدين والملة بصلة.ومع ذلك، لا أتوانى، ولا أتهاون، أحضر في الوقت، وأغادر بعد الوقت، لأني ما زلت، بغبائي العتيق، أؤمن أن النظام لا يُضعف الرجولة. وأن الانضباط ليس اضطرابا نفسيا بل فضيلة، وإن كنت لست الوحيد المصاب بها.. طموحاتي التي تمشي على أطراف أصابعها، تطلعاتي التافهة، مثل قائمة الأمنيات في متجر “لعب أطفال”، كثيرة، مغرية، سعرها خيالي ليس بمتناول الجميع.. أطمح أن أكون مختلفًا، مميزًا، لا يُنسى لكنني حين أنظر في المرآة، أجد شخصا يكتب أكثر مما يقرأ، ولم ينهِ حتى اللحظة قراءة كتاب “كيف تتعلم الحلاقة برؤوس اليتامى”، للشيخ كارل ماركس.
أما عن قناعاتي، فهي تسير بي نحو فلسفة خاصة جدا، “لا تُطِل التفكير حتى لا تكتشف أنك تفكر خارج الصندوق”. أنا مؤمن أنني دائمًا على حق، حتى أفتح فمي كالتمساح الجائع. وإذا سألتني الآن، وفي اللحظة، ماذا أعددت لنفسك؟ أقول لك بكل فخر، أعددت قائمة طويلة من المشاريع التي لم أبدأها، وأصدقاء لم أعد أرد على رسائلهم، وخططا مؤجلة تنتظر يوما لن يأتي، إلا إذا فاز منتخبنا اليمني بكأس العالم. ومع هذا، ما زلت أحب نفسي، أصالحها كل مساء، وأعدها بأن .. “بكرة نفتح صفحة جديدة”.
وهكذا دواليك

زر الذهاب إلى الأعلى