مجتمعٌ يرتعش من “ياقة” إعلامية… ولا يرتعش من فساد دولة

بقلم/ د. فيروز الولي
في بلادٍ يُعاقَب فيها الجمال لأنه ظهر، ويُكافأ القبح لأنه تَخفّى…
بلادٍ تُطهّر النساء من ذنوبٍ لم يرتكبنها، وتُغرق الرجال في أعذارٍ لم يعودوا يصدّقونها.
في المشهد اليمني المحتقن، حيث يتشقق الجدار الأخلاقي كلما تنفّست امرأة خارج قارورة العادات، تتقدّم عهد وهديل وأمل كصفعةٍ ناعمة تكشف الحقيقة التي حاول المجتمع طمرها تحت سبع طبقات من الخوف:
أن الخطر لم يكن في المرأة… بل في سقوط أسطورة الذكر أمام نفسه.
الذنب العظيم: امرأةٌ تتنفس بلا إذن
تخرج عهد، تبتسم هديل، تتحدث أمل…
فتنهار “الهيبة” التي بُنيت من وهم، وتتهاوى سلطةٌ قائمة على ماذا؟
على الخوف من أن تمتلك المرأة صوتًا لا يتحكمون به.
ذنبهن؟
ليس أنهن ظهرن… بل أنهن لم يعتذرن عن ظهورهن.
ليس أنهن تكلمّن… بل أنهن لم يخفن قبل الكلام.
ليس أنهن فتحن الكاميرا… بل أنهن أغلقن باب الوصاية في وجه من اعتاد اقتحام أرواح النساء بلا استئذان.
هناك ذكور لا يشعرون برجولتهم إلا إذا كسروا جناح أنثى.
ولا يشعرون بالأمان إلا حين يُطفئون ضوءها… كي لا ترى أعينهم حقيقتهم.
اليمني… ورجل الدين الذي يثور على “ياقة عهد”
ولا يرفّ له جفن أمام قهر ألف امرأة
هناك ذكور لا تتحرك غيرتهم إلا عندما تكشف عهد أو هديل أو أمل عن ياقتها سنتيمترًا واحدًا…
لكنهم لا يغضبون حين تُسلب امرأة ميراثها، أو تُرمى أخرى في السجن، أو تُهان ثالثة في الشارع، أو تُدفن طموحات آلاف اليمنيات.
تثور نخوتهم على قطعة قماش،
ولا ترف لهم عين أمام ظلمٍ كاملٍ يبتلع حياة النساء يوميًا.
والأعجب؟
أنهم يلوّحون بالدين!
وكأن الدين جاء ليحمي أعينهم… لا حقوق المرأة.
يكفي أن نعود إلى قصة بلقيس—ملكة اليمن، سيدة قومها—التي “كَشَفَتْ عن ساقَيْها” أمام نبي الله سليمان.
ومع ذلك لم تُلعَن، لم تُهدد، لم تُتوعد بالنار.
بينما أبو لهب وإبليس هم من نالوا الوعيد.
فلماذا يغضب الرجل اليمني أكثر مما غضب الله؟
ولماذا تشتعل لحيته غيرةً من امرأة كشفت ساقها قبل ثلاثة آلاف سنة…
ولا يثور حين تُسحق امرأة اليوم في صنعاء أو تعز أو عدن؟
رجال دين يشدّون القبضة على المرأة…
ويتركون المجتمع يتهاوى
هناك رجال دين يملكون قدرةً خارقة:
يرون “الفتنة” فقط في صوت المرأة،
ولا يرون الفتنة في فساد المسؤول،
أو جشع التاجر،
أو قهر القبيلة،
أو ضياع العدالة.
يشدّون الخناق على المرأة:
في لباسها،
في خروجها،
في دراستها،
في ميراثها،
في حقها بالحياة…
بينما يتركون الرجل يفعل ما يشاء:
يبتز زوجته،
يأكل حقوق أخواته،
يمنع ابنته من التعليم،
ويحبس أمه في بيتٍ باردٍ مدى العمر.
هذا ليس دينًا…
هذا انفصام اجتماعي مُقنّع بالنصوص،
ورهاب ذكوري يتخفى تحت لحيةٍ ترتعش كلما رأت امرأة واثقة.
التحليل النفسي:
حين تصبح الأنثى مرآة تكشف هشاشة الذكور
لا شيء يربك الذكر الهشّ كظهور امرأة قوية.
فالذي يجعل من “الستر” سياجًا، غالبًا ما يخشى أن يُستر هو من فضائحه النفسية.
والذي يصرخ “المرأة فتنة!”، غالبًا ما يعني:
“أنا لا أثق بنفسي أمام امرأة.”
أغلب مطاردي النساء ليسوا حماة للأخلاق…
بل أسرى رغباتهم غير المعترَف بها.
يرون في المرأة مرآة تكشف ضعفهم،
فينكسرون… ثم ينكّرون… ثم يمارسون العنف ليغطّوا الانكسار.
التحليل الاجتماعي :
مجتمعٌ يحارب نصفه… ثم يسأل لماذا يتراجع!
اليمن مجتمعٌ يستهلك نصف طاقته ليقمع النساء…
ثم يشتكي من انعدام الكفاءات!
يمنع الفتاة من الظهور…
ثم يبكي هجرة العقول!
يخنق مستقبل المرأة…
ثم يتساءل: لماذا المستقبل مظلم؟
يا للسخرية:
اليمن التي أنجبت بلقيس…
اليوم تعجز عن تقبّل مذيعة.
التحليل الثقافي الديني:
حين يتحول النص إلى عصا تُضرب بها النساء
هناك من يقرأ ألف آية في الكرامة…
ويتركها كلها،
ثم يمسك بعبارة واحدة،
ويحوّلها إلى مشنقة يومية للنساء.
ليسوا حماة دين…
بل حراس خوف.
يرعبهم أن تصبح المرأة “شخصًا” لا “شيئًا”.
أن تكون شريكة… لا تابعًا.
أن تمتلك رأيًا… لا صمتًا مقدسًا.
وفي مفاهيمهم، المرأة الصالحة هي:
زوجة صامتة،
مطلّقة مطيعة،
أرملة متوارية،
أو ما ملكت أوهام ذكوريتهم.
أما إذا وقفت أمام الكاميرا…
فهنا تُعلن حالة الطوارئ.
مشهد الفضيحة الكبرى:
امرأة تظهر… فيهتز مجتمع
كل مرة تظهر فيها عهد وهديل وأمل، يقال إن القيم تهتز.
لكن الحقيقة؟
القيم لا تهتز…
الهشاشة الذكورية هي التي ترتعش.
قبائل كاملة ترتبك…
أمام فتاةٍ تحمل ميكروفونًا.
رجالٌ كاملون يصمتون…
أمام جملةٍ تلقيها امرأة بثبات.
بلدٌ لا يخاف من الفساد،
ولا من السلاح،
ولا من انهيار الاقتصاد،
لكنه يخاف من ابتسامة فتاة أمام الكاميرا
الخاتمة :
ثلاث فتيات… وأسقطن أسطورة “الرجال الجبال”
عهد وهديل وأمل
لم يحملن سلاحًا،
لم يقُدن انقلابًا،
لم يهدمن دولة،
لم يهاجمن أحدًا.
لكن ظهورهن وحده كان كافيًا ليفضح:
من هو الرجل
ومن هو الذكر
من هو صاحب القيمة
ومن هو صاحب العقدة
من يؤمن
ومن يخاف
من يحمي المرأة
ومن يحتمي منها
لقد أثبتن أن الخوف لم يكن يومًا من المرأة…
بل من رجولة وهمية هشّة لا تصمد أمام ضوء كاميرا.
وأن المجتمع الذي يعتبر المرأة “خطرًا وجوديًا”
ليس مجتمعًا محافظًا…
بل مجتمعًا يعيش انقراضًا فكريًا كامل الأركان.
لم تُحرج عهد وهديل وأمل المجتمع…
بل أضاءن الضوء.
والعتمة… هي التي صرخت.
