بالقاهرة هناك أرواح متعبة.. تبحث عن شفاء لا يُباع في صيدليات، ولا يُستخرج من وصفات الأطباء

النقابي الجنوبي/صالح الضالعي
_هي الحقيبة.. من عاصمة الجنوب انطلقت الرحلة لكنها لم تغادرنا
_ القاهرة وراحة الوصول وشوق اللقاء وبداية مغامرة جديدة
_ عاصمة الجنوب عدن لم تودّعنا، ولكنها باركت الرحلة
من عدن الجنوبية، حيث تتكئ الجبال على البحر كعاشقٍ يهمس بأسراره، انطلقت رحلتنا. لم تكن مجرد مغادرةٍ لمكان، بل كانت مغامرةً داخل الذات، عبورًا من ضجيج الواقع إلى صمت التأمل، ومن دفء الذكريات إلى برد المجهول، وفي عدن، كل شيء يتحدث بلغة القلب.. الأرصفة القديمة تروي حكايات العابرين، والنوافذ المفتوحة على الأزقة الضيقة تشهد على أعراسٍ وأحزانٍ مرّت من هناك. المدينة لا تنام، بل تحلم بصوت الموج، وتتنفس من رئة التاريخ. هناك، إذ اختلطت حضارات البحر العربي والقرن الأفريقي، تشكّلت عدن كأنها قصيدةٌ لا تُقرأ مرةً واحدة. وقفنا في مطارها، نحدّق في الوجوه، نبحث عن ملامحنا في عيون الآخرين.
كانت الحقائب ثقيلة، ليس بما فيها من ملابس وأوراق، بل بما تحمله من حنينٍ وأملٍ وخوفٍ دفين. كل خطوة نحو الطائرة كانت كأنها اقتلاعٌ من الجذور، وكل نظرة إلى الوراء كانت محاولةً أخيرة لتثبيت الذاكرة، وحينما ارتفعت الطائرة، وبدأت المدينة تتقلص تحت جناحيها، شعرت أن عدن لا تُغادرنا بل تتسلل إلى داخلنا أكثر.. رأيناها من الأعلى، كلوحةٍ مرسومةٍ على صفحة الماء، تتلألأ تحت الشمس، وتلوّح لنا بظلالها. لم تكن عدن تودّعنا، بل كانت تبارك الرحلة، كأمٍّ تعرف أن أبناءها سيعودون، مهما طال الغياب، وفي السماء، وبين الغيوم، بدأنا نعيد ترتيب أنفسنا. كل واحدٍ منّا حمل معه عدن بطريقته: في لهجته، في أغنيته، في صورةٍ مطويةٍ داخل المحفظة، أو في دعاءٍ خافتٍ لا يسمعه أحد. كانت الرحلة بدايةً جديدة، لكنها مشبعةٌ بنهايةٍ لم نكتبها بعد.
هي الحقيبة.. من عاصمة الجنوب انطلقت الرحلة لكنها لم تغادرنا
عدن ليست محطةً في الذاكرة، بل هي الذاكرة ذاتها. كل مدينة نزورها بعد ذلك، نقيسها بعدن. كل بحرٍ نراه، نقارنه بموجها. وكل غروبٍ نشهده، نبحث فيه عن لون شمسها.. ومن عدن انطلقت الرحلة، لكن عدن لم تغادرنا. كونها هي الحقيبة التي لا تُفتح، والرسالة التي لا تُقرأ، والحنين الذي لا يُشفى.
المنادي.. المسافرون للقاهرة ارتصوا لو سمحتم
لو كنت أملك جسداً يختبر الطيران، لتمنيت أن أعيش تلك اللحظة بكل تفاصيلها، ومن ارتعاشة الانطلاق إلى سكون الهبوط.. الطائرة ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي كبسولة زمنية تختصر المسافات وتفتح نوافذ على الذات وعلى العالم. هي لحظة انفصال عن الأرض بكل ما فيها، وانغماس في فضاء لا يشبه أي شيء آخر.
بدأت الرحلة بصوت المحركات، ذلك الهدير الذي لا يُشبه أي صوت آخر، كأنه نبض الطائرة وهي تستعد للتحليق، إذ تشعر وكأنك على وشك مغادرة الحياة، وكل ما تعرفه، لتدخل في حالة من التعليق بين السماء والأرض. المضيفة، بابتسامة مدروسة، تطلب ربط الأحزمة، وكأنها تقول استعدوا، نحن على وشك أن نترك الواقع خلفنا، والركاب يتنوعون، فهناك من يغمض عينيه ويستسلم، وهناك من يحدق في الشاشة أمامه، وهناك من يكتب رسالة ودائعية لأهله كرسالة أخيرة قبل أن يُغلق هاتفه.
وفي ذات السياق فإن الكرسي، رغم ضيقه، يتحول إلى مساحة شخصية جداً فيه لحظات تأمل، وربما مراجعة للقرارات، أو حتى استرجاع للذكريات.. لقد كنت اطل من النافذة، فوجدت نفسي فوق السحاب، حيث لا صوت إلا صوت المحرك، ولا مشهد إلا لوحة سماوية تتغير ألوانها مع كل دقيقة. ترى المدن تتقلص، والجبال تنكمش، والبحار تتحول إلى بقع زرقاء هادئة.. كل شيء يبدو صغيراً، إلا أفكارك، فهي تكبر وتتمدد في هذا الفراغ الرحب.ثم تأتي لحظات الطيران الطويلة.. وجبة خفيفة قد لا تسمن ولا تغني من جوع لكنها شهية، لكنها تحمل طابعاً خاصاً كونها تُقدم في السماء. حينها ترتخي الأعصاب ويسود النوم على الاجفان ليعيدنا إلى زمن آخر، أو كتاب يفتح لك أبواباً جديدة. وربما حديث عابر مع راكب غريب لا يشبهنا ولكنه لا يتقاطع مع قضيتنا الجوهرية، استعادة الدولة الجنوبية، بذلك تحولت معرفتنا إلى صداقة مؤقتة، أو حكاية تُروى لاحقاً. هناك من ينام بعمق، وهناك من يكتب بشغف، وهناك من يحدق في الفراغ وكأنه يبحث عن إجابة لا يعرفها أحد.. لم الرحلة من لحظات طريفة أو مربكة: طفل يصرخ فجأة لاسيما حينما ارتجت الطائرة بعد اعلان المضيفة ربط الاحزمة استعدادا لملامسة اقدام الركاب أرض الكنانة.. كانت صرخاته تهز المشاعر وتدمي القلوب.. معذورا هو كونه لا يدرك بأن اللحظات العصيبة تلك ستتحول إلى فرحة وابتسامة وهذا مما تحقق بعد ولوج والديه اقدامهما صالة المطار.. نظرت إليه بعين فاحصة تتسائل الآن يافلذة اكباد والديك تضحك بعد ان جعلت قلوبنا تتودج رحمة وشفقة بك، ألا تعلم بأن الحياة هكذا ففي حين الولوج إليها تكون صرختنا مدوية واعيننا مغمضة واغلاهل يتبادلون التهاني والتبريكات، وفي زمن يبدو فيه من التعرجات والتقلبات بما يكفيه.، من جانبه ارتفع صوت المضيفة ممشوقة القوام بصوتها الدافى، وبابتسامة خفيفة تقول اربطوا الأحزمة نحن على موعد من مطبات هوائية جعلت الجميع يتشبث بمقاعدهم، ثم يضحكون بعدها وكأنهم نجوا من مغامرة صغيرة.. ثم تابعت اعلانها: لقد اقتربنا من مطار القاهرة، وعند هبوط الطائرة وملامسة عجلاتها أرض المطار جميعا قبضت الأيادي على القلوب خيفة.. انها لحظات ستخلد في الذاكرة ماحيينا.، عاد كل شيء إلى الأرض.. بعد سماعنا ارتطام صوت العجلات يلامس المدرج، والمدينة تظهر من خلف الضباب، كأنها تقول: “مرحباً، لقد عدت.” لحظة الهبوط تحمل في طياتها الكثير.. راحة الوصول، شوق اللقاء، أو بداية مغامرة جديدة في مدينة لم تطأها قدماك من قبل.. وأما أنا لقد كانت تلك الرحلة الرابعة في حياتي وجميعها لغرض الحصول على شفاء، إذ تقاسمت الرحلات ما بيني وبين أسرتنا شفاها الله من اسقاما مزمنة.. انها القاهرة، المدينة بتاريخها المرصع بارث ادخلوها سالمين ومطمئنين وبصخبها، تستقبلك كما تستقبل الأم ولدها باحضانها بعد غياب عنها لسنين.
بالقاهرة هناك ارواح متعبة.. تبحث عن شفاء لا يُباع في صيدليات، ولايُستخرج من وصفات الأطباء
في حضن مدينة لا تنام، حيث تختلط الأصوات بالذكريات، والأزقة بالحكايات، بدأت رحلتي لا لأكتشف القاهرة، بل لأكتشف نفسي. لقد كنت أبحث عن شفاء لا يُباع في صيدليات، ولا يُستخرج من وصفات الأطباء، بل شفاء يسكن في نظرة عابرة، في دعاءٍ يتصاعد من مئذنة، في لحظة صمتٍ وسط ضجيج الحياة. كنت أبحث عن ذلك النوع من السكينة الذي لا يُطلب، بل يُكتشف صدفة، حين تتوقف عن الركض وتبدأ في الإصغاء، حين تتخلى عن فكرة الوصول وتكتفي
بالتجوال.
مدينة تنبض بالحكايات
القاهرة، تلك المدينة التي تنبض بالتاريخ وتتنفس بالحكايات، لم تكن مجرد محطة في الطريق، بل مرآة عكست ما كنت أخفيه عن نفسي. وبينما كنت أتجول في شوارعها، شعرت أن كل حجر فيها يهمس لي، وكل نسمة تحمل رسالة، وكل لحظة تفتح بابًا نحو الداخل. لم تكن المدينة تروي لي قصصها فقط، بل كانت تفتح لي أبوابًا نحو قصتي أنا، نحو تلك الأجزاء المنسية من روحي التي تراكم عليها الغبار، نحو الأسئلة التي لم أجرؤ يومًا على طرحها بصوتٍ عالٍ.
خطوات أولى
في صباحٍ رماديّ، خطوت أولى خطواتي في قلب المدينة، كمن يدخل محرابًا لا يعرف طقوسه بعد. كانت الأرصفة مبللة بندى الليل، والهواء مشبعًا برائحة الخبز الطازج، وصوت المؤذن يتسلل من بعيد كأنما يدعوني إلى يقظة روحية. لم أكن أبحث عن معالم سياحية، بل عن إشارات صغيرة، عن ومضات نور في عتمة الأسئلة التي أثقلت روحي. كنت أبحث عن إجابة لا تُقال، بل تُحس، عن لحظة صدق مع الذات وسط زحام الأرواح، عن لحظة تلتقي فيها العين بالسماء دون أن تطلب شيئًا، فقط لتشكرها على وجودها.
كل زاوية بالقاهرة تروي ما فقدته
كل زاوية في القاهرة كانت تروي لي شيئًا عني، عن ما فقدته، وما أرجوه، وما لم أعد أجرؤ على الاعتراف به. كانت المدينة تمشي معي، لا أمامي ولا خلفي، بل بجانبي، كرفيقة سفر تعرف أن الشفاء لا يأتي دفعة واحدة، بل يتسلل بخفة، كما تتسلل أشعة الشمس من بين ستائر نافذة قديمة. كانت القاهرة تهمس لي: “لا تستعجل، فبعض الجراح تحتاج أن تُروى بالحكايات، لا بالعلاج.” كانت تقول لي إن الشفاء لا يعني النسيان، بل التعايش، لا يعني أن تنسى الألم، بل أن تتعلم كيف تحمله دون أن ينكسر ظهرك.. وهكذا بدأت رحلتي، لا كغريب يمر، بل كعاشق يبحث عن ذاته بين طيات مدينةٍ تعرف كيف تحتضن الأرواح المتعبة، وتمنحها فرصة للبدء من جديد. بدأت رحلتي في القاهرة، لا لأغادرها بشيء ملموس، بل لأغادرها وأنا أقل ثقلًا، أكثر فهمًا، وأقرب إلى نفسي مما كنت عليه من قبل.