كنا دولة.. وسنعود دولة، شاء من شاء وأبى من أبى

أبوناصر فانون السنيدي
لم تعد القضية الجنوبية مجرّد تفصيلٍ صغير في المشهد اليمني، بل أصبحت عنوانًا رئيسيًا في معادلة الأمن الإقليمي والدولي.
فالعالم اليوم، من واشنطن إلى الرياض وأبوظبي ولندن، يتعامل مع الجنوب كرقمٍ صعب، لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، بعدما ثبت أن الاستقرار في المنطقة يبدأ من عدن وينتهي عند باب المندب.
الرباعية الدولية « السعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة » تتعامل مع الأزمة اليمنية بعقلية براغماتية باردة، تتحرك وفق منطق المصالح لا المبادئ، ووفق حسابات الممرات لا حسابات الشعوب.
لكن رغم كل ما تبديه من حذر، تدرك تلك القوى أن تجاهل الجنوب لم يعد ممكنًا، وأن حلّ الأزمة اليمنية لن يمرّ إلا عبر بوابة الجنوب.
تحوّل الجنوب من أرضٍ منسية إلى عقدةٍ استراتيجية تشدّ أطراف الإقليم والعالم معًا.
من يملك السيطرة على موانئه وجزره وممراته، يملك نفوذًا حقيقيًا على حركة التجارة والطاقة في المنطقة.
ولهذا تداخلت مصالح القوى الكبرى والإقليمية في أرضه:
الإمارات في الموانئ والجزر، والسعودية في حضرموت والمهرة، والغرب في مراقبة خطوط الملاحة وتأمين البحر الأحمر والمحيط الهندي.
أصبح أمن العالم مرتبطًا باستقرار الجنوب، ومصيره مرهونًا بما يجري على أرضه.
غير أن الجنوب، وهو اليوم محور الاهتمام الإقليمي، ما يزال يواجه تحديًا أخطر من الحرب، هو تحدّي الوصاية وتقييد القرار الوطني المستقل.
إذ لا معنى لأي شراكة تُفرغ من مضمونها، ولا لقضية تُدار من خلف الحدود.
فالاستقلال لا يكون بالشعارات، بل بامتلاك القرار والثروة والسيادة الكاملة على الأرض.
ومن هنا فإن الصمت أمام محاولات التبعية أو تجميد القرار الجنوبي يُعدّ خيانة لدماء الشهداء ولتضحيات شعبٍ آمن بقضيته وعدالتها.
أما الشمال، فقد غدا واقعًا منفصلًا بحكم السيطرة الحوثية وهيمنة طهران، وأصبحت فكرة “اليمن الموحّد” مجرّد شعارٍ ميت.
ومن هنا برزت فكرة الدولتين ليس كمطلب جنوبي فقط، بل كخيارٍ دولي واقعي يضمن التوازن ويُنهي الفوضى، بعدما سقطت كل المشاريع الوهمية التي حاولت إعادة إنتاج المركز.
الجنوب لا يسعى إلى انفصالٍ عن وطنٍ لم يكن جزءًا منه أصلًا، بل إلى استعادة دولةٍ كانت قائمة ذات سيادة واعتراف دولي قبل وحدة 1990 التي تحولت إلى مشروع قهر ونهب وإقصاء.”
ومنذ حرب 1994، خاض الجنوب مسيرة طويلة من المقاومة والنضال، حتى صار اليوم أكثر وعيًا وتنظيمًا وقدرة على إدارة شؤونه السياسية والاقتصادية والعسكرية بمسؤولية وطنية راقية.
السلام الحقيقي لن يتحقق بإعادة تدوير الفشل، بل بالاعتراف الكامل بحق الجنوب في تقرير مصيره، وفق إرادته الحرة، وبما يضمن مصالح العالم وأمن المنطقة معًا.
فالجنوب المستقر هو صمام الأمان للبحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد العالمي، والمفتاح الذي لا غنى عنه لأي سلامٍ دائم.
إن على الجنوبيين اليوم أن يدركوا أن العالم يريد استقرارهم لا حبًا بهم، بل حفاظًا على مصالحه.
ومن هنا تأتي أهمية التحرك السياسي الواعي والدبلوماسية الذكية التي تحول هذا الاهتمام الدولي إلى اعترافٍ سياسي وحقوقي كامل بدولتهم واستقلال قرارهم.
لن يُكتب لأي تسوية قادمة النجاح ما لم تُنصف الجنوب وتُعيد له حقه، ولن يولد السلام إلا من عدالةٍ تُعيد الأمور إلى نصابها.
فالجنوب الذي صبر وناضل وضحّى، لم يعد ينتظر إذنًا من أحد، بل يمضي بثقة نحو استعادة دولته، رافعًا صوته للعالم:
كنا دولة.. وسنعود دولة، شاء من شاء وأبى من أبى.