اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

رهائن السطوة.. كيف يحوّل لواء “الجبولي” المدنيين إلى عملة مساومة في تعز؟

 

النقابي الجنوبي/تحقيق/ السميفع

عائلة تنتظر خمسة مختفين منذ ثلاث سنوات… بينما تُدار سجون سرية خارج سلطة القانون.

في بيت صغير بريف تعز، تجلس ملوك عبدالله سعيد، امرأة تجاوزت الستين، لا تكاد دموعها تجف. بين يديها صور لخمسة من أبنائها وأحفادها، اختفوا قبل ثلاث سنوات في سجون لا تعرف مكانها بالتحديد، لكنها تعرف من يحتجزهم. بصوت يمزقه الحزن، تقول:

“خمسة من أبنائي ٠وأحفادي معتقلون منذ ما يقارب ثلاث سنوات في سجون أبوبكر الجبولي قائد ما يسمى باللواء الرابع مشاة جبلي.”

قصتها ليست استثناءً، بل نافذة على واقع مرير تعيشه مناطق واسعة من تعز، حيث تتداخل السلطات الأمنية والعسكرية، وتذوب حدود القانون في متاهات النفوذ والسلاح.

الشمايتين: حيث بدأ الاختفاء

الأمر بدأ في مديرية الشمايتين جنوب المحافظة، حين داهمت إدارة الأمن منزل العائلة واعتقلت نائف ومحمد وأحمد ونادر، جميعهم أبناء وأحفاد ملوك، دون أي أمر قضائي أو تهمة رسمية، ومن بينهم ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة. بعد أيام، نُقلوا من سجن إدارة الأمن إلى اللواء الرابع مشاة جبلي في محور طور الباحة، رغم أن هذا التشكيل لا يملك أي صفة قانونية أو أمنية في تلك المنطقة.

ويشير المحامي وراوي العائلة إلى أن سبب احتجازهم كان الضغط على أحد أقربائهم لتسليم نفسه لقائد اللواء، ما يجعلهم رهائن في لعبة نفوذ محلية خارج القانون.

لم يمض وقت طويل حتى اختطف حفيد آخر، طارق، أثناء عمله سائق شاحنة محملة ببضاعة تجارية.

“اختطفوه مع الشاحنة وبضاعتها التي تقدر بآلاف الدولارات، فقط ليضغطوا على أحد أقربائنا كي يسلم نفسه لقائد اللواء.”
— الأم ملوك عبدالله سعيد.

الروايات المتراكمة تشير إلى أن الاعتقالات لم تكن عشوائية، بل جزء من ممارسة منتظمة لاستخدام المدنيين كرهائن في صراعات نفوذ محلية.

سجون خارج الرقابة

الشهادات التي جُمعت من أهالي المعتقلين تحدثت عن تعذيب جسدي ونفسي تعرض له البعض داخل السجون. تقول ملوك إن ابنها نائف وحفيدَيها أحمد ونادر عُذبوا، بينما لا يزال محمد، الطفل الذي اعتقل وهو في الثالثة عشرة، مفقودًا.

وثائق قانونية اطلعت عليها جهات حقوقية محلية تؤكد أن اللواء الرابع يحتفظ بسجون سرية في مناطق نائية، خارج نطاق اختصاصه الجغرافي أو العسكري. ويُعتقد أن فيها عددًا من المخفيين قسرًا منذ أكثر من ثلاث سنوات، أبرزهم شهاب علوان وياسر الناصري.

القانون في مواجهة السلاح

المحامي أنور أحمد عبدالجبار، وكيل أهالي المعتقلين، يوضح أن الاعتقالات تمت دون أي مسوغ قانوني، وأن تسليم الموقوفين إلى تشكيل عسكري ليس من اختصاصه يعد خرقًا صارخًا للقانون.

“هناك مخفيون قسرًا منذ ثلاث سنوات، واللواء الرابع يرفض حتى الآن الإفصاح عن مصيرهم.”

ويضيف أن القضية تجاوزت كونها مطلبًا عائليًا، لتصبح ملفًا حقوقيًا مفتوحًا يستدعي تدخل النيابة العسكرية ومجلس القيادة الرئاسي، مشيرًا إلى أن ما يجري يعكس هيمنة فصائل حزبية على مؤسسات الدولة.

تعز: مسرح للنفوذ الحزبي

مصادر حقوقية تفيد بأن اللواء الرابع مشاة جبلي يعمل تحت نفوذ حزب الإصلاح، ذراع جماعة الإخوان المسلمين في اليمن. ويجمع هذا التشكيل بين سلطات أمنية وعسكرية وإدارية في مناطق لا تخضع له قانونيًا، ما يخلق فراغًا أمنيًا يستغله لفرض سطوته.

في ظل هذا التداخل، يصبح المدنيون الحلقة الأضعف. وتشير تقارير ميدانية إلى أن استخدامهم كرهائن بات وسيلة شائعة للضغط، سواء لابتزاز الأموال أو لتبادل الأسرى بين الفصائل. النتيجة: مجتمع يعيش في خوف دائم، وثقة مفقودة بين الناس والسلطة.

أم تنتظر الغائبين

رغم مرور أكثر من ألف يوم، ما زالت ملوك تنتظر أي خبر عن أبنائها وأحفادها. كل صباح، تضع كراسي صغيرة أمام باب بيتها، كما كانت تفعل حين يجتمعون حولها، وتهمس: “أريد فقط أن أعرف إن كانوا أحياء.”

هذا المشهد الإنساني، البعيد عن الأرقام والمرافعات القانونية، يعكس معاناة آلاف الأسر في تعز ومناطق أخرى، حيث يختفي الناس في وضح النهار، ولا يُسأل عنهم أحد.

نداء من قلب الظلام

في بيان مشترك، وجه المحامي عبدالجبار وناشطون حقوقيون نداءً عاجلًا إلى مجلس القيادة الرئاسي، ووزير الدفاع، والنيابة العسكرية، والمنظمات الدولية، مطالبين بكشف مصير المختفين، وإغلاق السجون السرية، ومحاسبة المسؤولين عنها.

“نطالب بإغلاق السجون السرية التابعة للواء الرابع مشاة جبلي ومحاكمة القائد ومدير أمن الشمايتين وكل من تورط في هذه الانتهاكات.”

النداء لم يكن نهاية القصة، بل تذكير بأن الأسئلة لا تزال معلقة: من يملك السلطة في تعز؟ ومن يحمي القانون حين يتحول من يفترض أنهم حراسه إلى جلادين؟

العدالة لا تُستجدى بل تُفرض

ما تعيشه عائلة ملوك عبدالله سعيد ليس استثناءً في دولة منهكة، بل قاعدة في مناطق يُدار فيها الأمن كممتلكات خاصة، ويُستخدم القانون كسلاح انتقائي. خمسة مدنيين—بينهم طفل—يختفون لسنوات، ليس لأنهم ارتكبوا جريمة، بل لأنهم ولدوا في الجهة الخاطئة من خريطة النفوذ، وتم احتجازهم كرهائن للضغط على أقاربهم.

الدولة التي لا تستطيع أن تحمي مواطنًا من الاعتقال خارج القانون، ولا تحاسب من يخفيه في سجن لا وجود له على الخرائط الرسمية، ليست دولة. إنها غطاء لفوضى منظمة.

العدالة التي تنتظرها هذه الأم ليست رجاءً، بل حق مغتصب. وإذا لم تتحقق لهؤلاء الخمسة، فلن تكون لأحد. لأن من يُسمح له باحتجاز أطفال دون محاكمة، لن يتوقف عند حد.

السؤال لم يعد: أين أبناء ملوك؟
بل: إلى متى ستظل الدولة تنظر في صمت، بينما يُحوّل المواطنون إلى عملة في سوق النفوذ؟

زر الذهاب إلى الأعلى