اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.
تحقيقات

فضيحة “نوتيكا”.. كيف موّلت الأمم المتحدة التهريب الحوثي تحت غطاء بيئي؟

النقابي الجنوبي/ خاص

في وقتٍ كانت فيه أعين العالم تتابع أزمة ناقلة النفط “صافر” باعتبارها قنبلة بيئية موقوتة تهدد البحر الأحمر والمنطقة برمتها، كانت ترتيبات موازية تُصاغ خلف الكواليس باسم “الإنقاذ البيئي”، لتنتهي بكارثة سياسية وأمنية تُضاف إلى سجل المنظمات الأممية في اليمن.

الدكتور عبدالقادر الخراز، المدير السابق للهيئة العامة لحماية البيئة، فجر مفاجأة مدوية عبر منشور على منصة “إكس”، كشف فيه عن ما وصفه بـ”تورّط برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في تمويل غير مباشر لعمليات تهريب نفط”، انطلاقًا من الباخرة “نوتيكا”، التي تحوّلت من مشروع لحل أزمة “صافر” إلى أداة بيد ميليشيا الحوثي بعد تغيير اسمها إلى “يمن”.

من الإنقاذ إلى التمكين.. باخرة بأيدٍ حوثية

في أغسطس 2023، أعلنت الأمم المتحدة استقدام باخرة “نوتيكا” لحل أزمة “صافر”، ضمن خطة قدرت تكلفتها بـ145 مليون دولار. الخطة بدت إنسانية في ظاهرها، تهدف لتفادي تسرب أكثر من مليون برميل من النفط الخام، لكن ما حدث لاحقًا مثّل انقلابًا في جوهر المهمة.

فبدلاً من إخراج الباخرة من المنطقة بعد تفريغ “صافر”، تم تغيير اسمها إلى “يمن”، وأعلن أنها سُلّمت لشركة “صافر” الحكومية. إلا أن الواقع الميداني، بحسب الخراز، يُظهر أن السيطرة الفعلية عليها انتقلت إلى الحوثيين الذين يستخدمونها الآن في “أنشطة مشبوهة تتعلق بتهريب النفط الإيراني والروسي”.

هذا التغيير لم يكن مجرد خلل إداري، بل انعكاسٌ لبنية موازية من التواطؤ، كما يشير الخراز، محذرًا من أن الباخرة تحوّلت من خطر بيئي إلى خطر أمني واستراتيجي، يعمّق نفوذ الحوثيين في البحر الأحمر، ويعيد شبح التلوث النفطي إلى الواجهة.

اعتراف أممي مموّه.. وإنكار غير مُقنع

عندما تصاعدت الأسئلة الإعلامية حول مصير “نوتيكا” بعد تسليمها، سارع المتحدث باسم UNDP إلى نفي علاقة البرنامج الحالي بالباخرة، مشيرًا إلى أنها سُلّمت رسميًا إلى شركة “صافر”، وأن الحوثيين أُبلغوا – شفهيًا وخطيًا – بضرورة وقف استخدامها.

لكن هذا التصريح – بحسب متخصصين – شكّل أول اعتراف ضمني بوجود عمليات مخالفة على متن السفينة، خاصة أن توثيقًا جديدًا يُظهر أن برنامج UNDP ظل يدفع تكاليف تشغيل الباخرة بعد تسليمها المفترض، حيث تعاقد مباشرة مع شركة “يوروناف” البلجيكية، بمبالغ تجاوزت 10.3 مليون دولار خلال 23 شهرًا، تشمل رواتب وتشغيل السفينة.

شبكة تمويل لوجستي… وشبهة غسيل بيئي

التحقيق يُظهر أن طاقم الباخرة بالكامل يتكوّن من جنسية واحدة: الجورجيين، ويتم تنسيق دخولهم إلى اليمن عبر البرنامج الأممي نفسه. كما أن العلاقة بين برنامج الأمم المتحدة وشركة التشغيل لم تنقطع، بل استمرت بتمويل شهري يقارب 450 ألف دولار، ما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل كانت الأمم المتحدة تدفع لتشغيل سفينة تستخدمها الميليشيا لأغراض التهريب؟

الأخطر، بحسب مراقبين، هو الصفقة المريبة بين “يوروناف” وشركة “أنجلو-إيسترن”، التي تسعى لتوسيع حضورها في سوق ناقلات النفط، ما قد يشير إلى شبكة أوسع من المصالح، تتجاوز اليمن إلى أسواق إقليمية ودولية تستفيد من هذا الوضع الفوضوي.

دلالات بيئية وأخلاقية… ونداء لمحاسبة دولية

الدكتور عبدالقادر الخراز اعتبر أن ما حدث يمثل “فضيحة متعددة الأوجه”، لافتًا إلى أن:

الفساد المالي والإداري يجري بتمويل مباشر وغير شفاف.

التعاقدات المشبوهة سهلت استخدام موارد أممية في أنشطة محظورة.

تمكين الحوثيين من أداة لوجستية استراتيجية يمثل تواطؤًا صريحًا أو إهمالًا جسيمًا.

الخطر البيئي الناتج عن استمرار وجود السفينة في موقع “صافر” لا يزال قائمًا.

ثقة الشعب اليمني والمجتمع الدولي في المنظومة الأممية تنهار أمام هذه الحقائق.

ولعل أكثر ما أثار استغراب الخراز، هو “غياب التوضيحات الرسمية من الجهات الأممية والشرعية، ما يفتح المجال واسعًا أمام تضليل الرأي العام”، داعيًا إلى “تحقيق دولي شفاف لمحاسبة كل الجهات المتورطة، سواء داخل الأمم المتحدة أو في أوساط السلطة الشرعية”.

تزامن كارثي: من “نوتيكا” إلى “روبيمار”

تأتي هذه الفضيحة في ظل أزمة بيئية أخرى، فالباخرة “روبيمار”، التي قُصفت في 2024 أثناء وجودها في المياه اليمنية وهي محمّلة بآلاف الأطنان من الأسمدة، كانت أيضًا تخضع لإشراف أممي غير مباشر، وهو ما يضع برنامج الأمم المتحدة تحت مجهر الشك مرة أخرى.

المفارقة أن مركز الملك سلمان للإغاثة منح مؤخرًا دعمًا جديدًا للبرنامج للتعامل مع أزمة “روبيمار”، رغم الجدل المستعر حول أدائه في قضية “نوتيكا”.

الأمم المتحدة أمام اختبار الشفافية والمساءلة

القضية التي بدأت تحت لافتة “منع كارثة بيئية” تحولت إلى أداة لشرعنة التهريب والتمكين العسكري، ما يفرض تساؤلات جوهرية عن آليات الرقابة على المشاريع الأممية في الدول الهشة، وعن مدى استقلالية هذه البرامج عن تأثيرات الميليشيات المحلية أو صفقات الشركات العابرة للحدود.

إن ما كُشف حتى الآن ليس سوى رأس جبل الجليد في ملف يبدو أعقد مما ظهر، ويتطلب تفكيكًا ممنهجًا لشبكة التمويل والقرارات، ومحاسبة صارمة لكل من استغل يافطة البيئة لتغذية الحروب.

تحذير مبكر

الفضيحة المزدوجة لـ”نوتيكا” و”روبيمار” تُنذر بانهيار أخلاقي في التعاطي الأممي مع الأزمات اليمنية، وتحتم على المجتمع الدولي إيقاف هذا العبث الذي يُدار باسم الإنقاذ، بينما يدفع ثمنه الشعب اليمني والبيئة البحرية والأمن الإقليمي.
الشفافية ليست خيارًا بعد اليوم، بل واجب قانوني وأخلاقي يجب أن يُفرض على الأمم المتحدة قبل أن تفرغ سفنها من آخر نقطة ثقة.

زر الذهاب إلى الأعلى