ليلة سقوط المريكافا الاسرائيلية صراخ والام واوجاع لحلم جيش وصنع صناع

النقابي الجنوبي /متابعات خاصة
لقد نجح تنظيم شبه عسكري من بضعة آلاف مقاتل في مقاومة أقوى جيش في الشرق الأوسط طيلة أسابيع”.
إلياهو وينوغراد، رئيس لجنة التحقيق الإسرائيلية في حرب يوليو/تموز 2006 أثناء تقديمه تقرير اللجنة النهائي (9)
في فبراير/شباط 2002، وبعد أن قام مسلحون من المقاومة الفلسطينية بالهجوم على مستوطنين إسرائيليين، أرسلت تل أبيب دبابة ميركافا لمواجهتهم، وسرعان ما اتضح أن الميركافا كانت تسير نحو فخ صُنِع بدقة عبر عبوة ناسفة وضعتها المقاومة الفلسطينية في طريقها. دمَّر الانفجار الدبابة، وقلبها على إحدى جانبيْها، وفصل البُرج عن بقية الدبابة، كما أردى ثلاثة جنود إسرائيليين قتلى. وقد علَّق محللون إسرائيليون حينها على الهجوم قائلين إنه ضربة قاصمة لهيبة الجيش الإسرائيلي (10).
كانت تلك هي البداية فقط. ففي عام 2006، وحين اندلعت حرب يوليو/تموز مع حزب الله في الجنوب اللبناني، عانى الجيش الإسرائيلي الأمرَّيْن، وخسر العشرات من دباباته. وقد برز آنذاك صاروخ الكورنيت بعد أن مرَّرته سوريا إلى حزب الله في جنوب لبنان، وهو صاروخ روسي متطور مداه خمسة كيلومترات ويمكنه أن يخترق تدريعا سُمكه أكثر من متر. على مدار 33 يوما من المعركة مع حزب الله التي شاركت فيها 400 دبابة إسرائيلية، تعرَّضت 48 دبابة لضربات من السلاح المضاد للدبابات، ولحقت أضرار جسيمة بـ40 أخرى، وتعرَّضت 20 غيرها لاختراق تدريعها في حين دُمِّرَت بالكامل أكثر من خمس دبابات (11).
“لقد كانت واحدة من المفاجآت العسكرية للقتال في لبنان هي الهشاشة الواضحة للسلاح الإسرائيلي في مواجهة صواريخ حزب الله المضادة للدبابات”، هكذا جاء في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بعد حرب يوليو/تموز 2006 (12). لقد اشتهرت الميركافا بأن تدريعها مُصمَّم لمنح حماية خاصة لطاقم الدبابة، وهو تصميم حرص عليه “طال” بالنظر للأهمية التي توليها إسرائيل لحياة جنودها وضباطها. لكن عدد جنود أطقم الدبابات الذين قُتِلوا في لبنان عام 2006 وصل إلى 30 من أصل 120 جنديا إسرائيليا مقتولا، أي رُبع القتلى (13).
أظهرت حرب لبنان الطفرة التي حقَّقها حزب الله بعد ست سنوات من انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب البلاد، ومدى هشاشة جيش الاحتلال في مواجهة تنظيم مُسلَّح وعالي التدريب بعيدا عن الحروب النظامية المفتوحة في الصحارى، التي صُمِّمَت الميركافا للمفارقة كي تتحرَّك فيها بيُسر. بعد نحو عام وصلت حماس إلى السلطة في غزة، وبات هناك صداع آخر في رأس إسرائيل من الجنوب هذه المرة، ولم يمضِ وقت طويل حتى راكمت الحركة خبرات وعتادا كافيا أوجعت به جيش الاحتلال. ولكن ما تغيَّر بعد كل تلك السنوات هو طبيعة الحروب غير النظامية نفسها، التي أحدثت فيها الحرب الأوكرانية نقلة كبيرة بفضل الاستخدام المُكثَّف للمُسيَّرات والاعتماد على الخنادق عند الطرفيْن في ظل جغرافيا كثافة سكانية يصعُب التحرُّك فيها على عكس المعارك النظامية المفتوحة.
الدرس الأوكراني.. الخندق في مواجهة الدبابة
رغم القفزات الهائلة في التكنولوجيا العسكرية، فإن اختراق موقع مُحصَّن يظل تحديا كبيرا إلى يومنا هذا. (الصورة: الفرنسية)
“إن الأوكرانيين يُعيدون اكتشاف حرب الخنادق ويتبنون تكتيكات شبيهة بتلك التي ابتدعتها قوات شتورم تروبِّن الألمانية في الحرب العالمية الأولى”.
ثيبو فوييه، مدير معهد الدراسات الإستراتيجية والدفاعية بجامعة ليون 3 الفرنسية (14)
على عكس المركزية التي حظيَت بها الدبابات في الحرب العالمية الثانية والمواجهات النظامية الكُبرى، على غرار حرب أكتوبر 1973، يبدو أن الصراعات الأخيرة التي اندلعت في مناطق عِدة قد أزاحت الدبابة عن عرش المواجهات البرية. فقد لفتت الأنظار بُعيْد اندلاع الحرب الأوكرانية صور العشرات من الدبابات الروسية التي دُمِّرَت وطارت أبراجها بعد أن انقض عليها الأوكرانيون بصواريخ رخيصة مضادة للدبابات وبمُسيَّرات “بيراقدار” التركية. كان ذلك خبرا سعيدا للدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، لكنه كان خبرا سعيدا أيضا للعديد من الجماعات المُسلَّحة صاحبة العُدة والعتاد الأقل شأنا في مواجهة خصوم يمتلكون التفوُّق التقني (15).
لم تعانِ الدبابات الروسية وحدها، بل إن أوكرانيا ما إن اعتمدت عليها هي الأخرى في هجومها المضاد حتى وجدت القوات الروسية تستخدم التكتيكات غير النظامية نفسها لعرقلة هجمات كييف وتدمير دباباتها. ومنذ اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، خسرت كلٌّ من روسيا وأوكرانيا أكثر من نِصف الدبابات التي بدأت بها الحرب. فحين شنَّت موسكو حربها كانت تمتلك نحو 3400 دبابة في الخدمة، وبعد نحو عام، كانت قد فقدت 1688 دبابة (أي نصف ما امتلكته سابقا تقريبا)، في حين بدأت أوكرانيا الحرب بنحو 900 دبابة وخسرت 459 بعد عام (أيضا نحو النصف). ويعني ذلك أن الكُلفة المادية للهجوم البري، بالنظر لما يتكلفه صُنع دبابة، أكبر كثيرا من التكنولوجيا الرخيصة التي تُدمِّرها بسهولة، وهو ما يضع الصناعات العسكرية في مأزق كبير (16) (17).
نتيجة لذلك، فإن الحرب التي بدأت بهجوم روسي من أجل إسقاط العاصمة كييف، ثم تبعها هجوم مضاد أوكراني من أجل تحرير الشرق والجنوب، سرعان ما تحوَّلت من الهجوم واسع النطاق إلى التمترُس من أجل الدفاع. ورغم القفزات الهائلة في التكنولوجيا العسكرية، فإن اختراق موقع مُحصَّن يظل تحديا كبيرا إلى يومنا هذا، وهو ما دلَّلت عليه الحرب التي بات يعتمد فيها الأوكرانيون على الخنادق لوقف الزحف الروسي، في حين يعتمد فيها الروس على التكتيك نفسه للحيلولة دون تحرير أوكرانيا للمناطق التي تحكمها موسكو. والنتيجة هي حرب عالقة وخط فاصل يتأرجح بالكاد، ومواقع حصينة لا يبدو أنها ستسقط بسهولة، ومعارك محدودة يحسمها الدفاع الصلب لا الهجوم المفتوح، ومعادلة اقتصادية تفرض قيودا على وتيرة إمداد الأسلحة (18).
بينما تحوَّل الصراع من الهجوم إلى الدفاع، لعبت الخنادق والتحصينات دورا مركزيا، وكذلك الطبيعة المُعقَّدة للمدن. لقد عانى الأوكرانيون في هجومهم المضاد على المواقع الروسية من التحصينات التي بناها الروس بكفاءة عالية، التي تشمل شبكة من الخنادق والألغام والحواجز الترابية والحواجز المضادة للدبابات المعروفة بأسنان التنين (Dragon’s Teeth)، علاوة على بعض الأنفاق المُستخدمة في نقل القوات والعتاد والمؤن، وهي تحصينات تُعَدُّ الأضخم من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية (19). ورغم الدمار الهائل الذي لحق بالمُدن الأوكرانية بسبب القصف الجوي، فإن الروس عجزوا عن تحقيق أهدافهم الأولية التي بدأوا الحرب من أجلها، في حين أثبتت تكتيكات الأوكرانيين نجاحها في وقف الزحف الروسي رغم الفارق في القدرة على تعبئة الجنود وأعدادهم على الجبهتَيْن (20).
دفاع القسَّام في مواجهة دبابات الاحتلال
“إنني أعتقد أن ما تواجهه روسيا في أوكرانيا هو نفسه الذي واجهته إسرائيل في لبنان عام 2006، لكن على نطاق أوسع بكثير”.
ديفيد جونسون، عقيد أميركي متقاعد (21)
في جولة المواجهات بين المقاومة وجيش الاحتلال عام 2014، ظهرت بشكل حاسم شبكة الأنفاق واستخداماتها العسكرية، حيث استطاع مقاتلو القسام تغيير قواعد الاشتباك وعبروا منها إلى غلاف غزة وتسلَّلوا إلى خلف خطوط العدو وهاجموه من داخل أراضيه، كما ساعدتهم الأنفاق في أسر الجنود (22). في حين تشي الاشتباكات التي جَرَت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الآن بين المقاومة وجيش الاحتلال بأن الميركافا، على غرار عام 2006، سقطت ضحية صواريخ وألغام ومُسيَّرات المقاومة، دون أن تُختَبَر بعد الأنفاق وأثرها إلى اللحظة. فقد بلغت خسائر إسرائيل من دبابات الميركافا حتى الآن 15 دبابة، تدمَّرت منها أربع بالكامل، ووقعت 10 في قبضة المقاومة، وأُلحِق الضرر بواحدة، علاوة على العشرات من ناقلات الجنود (23).
في أثناء الحرب الدائرة، وزَّعت كتائب القسام تعليمات لمقاتليها كي يستهدفوا الدبابات الإسرائيلية، وقد حصل عليها جنود الاحتلال من أحد المقاتلين الذين استُشهِدوا في القتال، وهي تحوي توجيهات باستهداف أنظمة “تروفي” المُثبَّتة على الدبابات. وتروفي هي مجموعة من الرادارات الصغيرة ومنصات إطلاق القذائف التي تستشعر تلقائيا أي صواريخ متجهة نحوها وتعترضها، وطوَّرتها تل أبيب بعد حرب 2006. وقد كشفت التعليمات أن إطلاق صاروخ من مسافة قصيرة جدا يُمكِن أن يُعطِّل نظام “تروفي”، ولذا لم يكن غريبا التسجيل الذي أُذيع قبل ساعات ويُظهِر محاولة استهداف ميركافا من مسافة تكاد تقترب من الصفر، وهو مشهد مُرشَّح للتكرار في ظل الكثافة السكانية لمدينة غزة، وكذلك الدمار الهائل الذي لحق بالكثير من أحيائها السكنية، الذي ربما يمنح المقاومة تحصينا إضافيا إن استطاعت استخدامه في مواجهة الهجوم الإسرائيلي (24).
“لقد وصلنا إلى السقف فيما يُمكن أن نوفره من حماية لأي مَركَبة، دون أن نجعلها أكبر أو أثقل من اللازم كي تُناسب البنية التحتية في المُدن، وفي الوقت نفسه، تزايدت قوة فَتْك الذخائر المُصوَّبة نحو الدبابات بوتيرة عالية”، هكذا عبَّر عن المُعضلة “جاك واتلينغ”، أستاذ بمعهد الخدمات الملكية المتحدة للدفاع في بريطانيا (RUSI)، مُضيفا أن عصر الدبابة لم ينتهِ بالضرورة، لكن التحوُّلات الجارية في القرن الحادي والعشرين تعني نقلة في دور الدبابة وأولويات تصميماتها المستقبلية، التي يجب أن تُعلي من سرعتها وقوة نيرانها على حساب تدريعها، وهو خبر سيئ للميركافا وصُنَّاعها (25).
لطالما اعتمدت الإستراتيجية الإسرائيلية على التفوُّق التقني والمادي، وتبنِّي تكتيكات تُقلِّل من أعداد القتلى في صفوف الجنود والضُبَّاط قدر الإمكان بالنظر للتعداد السكاني المحدود لدولة الاحتلال، علاوة على نقل الحرب إلى أرض العدو، والمُبادرة بالهجوم الاستباقي الأول في حالة تفاقم الخطر الوجودي عليها (كما جرى عام 1967 وفي اجتياح لبنان). هُنا تظهر بجلاء أوجه الشبه بين الهزيمة الإسرائيلية في أكتوبر 1973 وفي أكتوبر 2023؛ ففي كلتا الحالتيْن فوجئت إسرائيل بتكتيكات وعُدَّة وعتاد لم تأخذها في الحسبان، وبخسائر فادحة في الأرواح آلمتها بشِدة، وبامتلاك عدوِّها لزمام المبادرة والمفاجأة. لم تكشف فصول المعركة الجارية عن نفسها بالكامل، بيد أن مُجريات الحرب الأوكرانية، والتحصينات التي أعدَّتها المقاومة في قطاع غزة، قد تعني أن الدرس الاستخباراتي القاسي لن يكون الدرس الوحيد المؤلم لتل أبيب، بل يُمكن أن يكون هناك درس جديد في طريقه إلى الدبابات الإسرائيلية.
