ثقافة “الطفي لصي”: أسلوب حياة في عتمة الأمل

ثروت جيزاني
هناك شعوب ارتبطت هويتها بحضاراتها وفنونها، فاليابان تُعرف بالساموراي، وإيطاليا بالنهضة، وأمريكا بالتكنولوجيا، أما نحن فقد تميزنا بثقافة فريدة من نوعها تستحق أن تُدرّس في الجامعات تحت مسمى “ثقافة الطفي لصي”.
هذه الثقافة لم تهبط علينا فجأة، بل تراكمت بالصبر على الانطفاءات المتكررة التي امتدت أكثر من عقد كامل حتى تحولت إلى علم قائم بذاته، وأصبح الناس يعرفون تفاصيل المنظومة الكهربائية أكثر مما يعرفون تفاصيل حياتهم اليومية.
في البداية كان الانطفاء مفاجئاً يثير الغضب، ثم مع مرور الوقت والأعوام صار مألوفاً بل وأصبح طقساً اجتماعياً يُبنى عليه روتين الحياة. تحولت أسباب خروج المنظومة إلى مادة للنقاش الجاد والتحليل العميق، فهناك من يفسر العطل بأنه ضربة في خط النقل، وآخر يؤكد أن الرياح أسقطت كيبل رئيسي، بينما فريق ثالث يتحدث بثقة عن نفاد الوقود وتأخر السفينة في الميناء. ومع الوقت صار المواطن العادي خبيراً كهربائياً ومحللاً نفطياً ومتابعاً نشطاً لتحركات الناقلات، لا لشيء إلا لأنه يريد أن يعرف متى ستعود المصابيح إلى الحياة.
بل إن جداول الانطفاء تحولت إلى محفوظات يتداولها الناس كما يتداول طلاب المدارس جداول الحصص. تجد أحدهم يخبرك بأن الانطفاء اليومي سيبدأ بعد الظهر وسينتهي الفجر إلا إذا حدثت استثناءات، وهناك من يعدد لك جرعات الأسبوع كاملة وكأنه يقرأ نشرة جوية. وعندما تلتقي بصديق أو قريب فإن أول سؤال يطرحه عليك ليس عن صحتك أو عملك، بل عن آخر جرعة إطفاء: “متى طفت عندكم وكم لها؟” وكأن الكهرباء أصبحت مقياس الزمن الحقيقي لحياتنا اليومية.
الأمر لم يقف عند حد الاعتياد، بل وصل إلى مستوى الحنين، فالمواطن إذا صمد التيار أكثر من ثلاث ساعات متواصلة يبدأ بالقلق، ويشعر أن شيئاً غير طبيعي يحدث في الأفق، وربما يتوجس من مؤامرة كونية. فالاستقرار بالنسبة له لم يعد في وجود الكهرباء، بل في انقطاعها المنتظم الذي يمنحه شعوراً بالاطمئنان.
ومع كل هذا، يظل المشهد الأكبر هو عقم الحلول. الوعود تتكرر واللقاءات تُعقد والبيانات تُذاع، لكن الظلام يبقى سيد الموقف، حاضرًا في كل بيت وشارع وذاكرة. لقد صار الانقطاع جزءاً من الهوية المشتركة التي توحد كل مناطق البلاد، وصارت ثقافة “الطفي لصي” الرابط الاجتماعي الذي لا يختلف عليه أحد. وربما في يوم من الأيام ستتم إضافة هذه الثقافة إلى قائمة التراث اللامادي للإنسانية، لا باعتبارها كارثة، بل باعتبارها ابتكاراً فريداً في تحويل المعاناة إلى طقس يومي وسخرية متواصلة.
ثروت جيزاني
15 سبتمبر 2025م