العسل المسموم..تحقيق يكشف استهداف نحالين جنوبيين في إب وسط صمت السلطات

النقابي الجنوبي/خاص
حوادث متكرّرة ضد نحالين من لحج وشبوة تثير تساؤلات حول التمييز المناطقي والإفلات من العقاب
تحقيق وتحرير:
هشام صويلح
في وديان محافظة إب الخضراء، حيث يزدهر النحل عادة على رحيق الزهور، استيقظ نحالون جنوبيون على مأساة غير مسبوقة. مئات الخلايا التي تعبوا في رعايتها عامًا بعد عام، أُبيدت فجأة. لم يكن السبب مرضًا طبيعيًا أو تقلبًا مناخيًا، بل جريمة مقصودة — نُفذت بمبيدات حشرية وضعت بعناية في مساقي النحل.
مصادر محلية وحقوقية أكدت أن الحادثة استهدفت نحالين من محافظة لحج يعملون في مناطق رعوية بإب، وأن الجناة من أبناء المحافظة نفسها. النتيجة: نفوق أكثر من 400 خلية نحل، وخسارة مادية تتجاوز قدرة الضحايا على التعويض. لكن خلف الأرقام تختبئ رواية أكثر خطورة — رواية تمييز ممنهج ضد أبناء الجنوب في مناطق الشمال اليمني.
ليل سكّر مساقيه… وسمّم نحل الجنوب
يروي أحد النحالين – فضّل عدم ذكر اسمه لدواع أمنية – تفاصيل ما جرى:
«في الصباح وجدنا النحل كله ميتًا، والروائح الكيماوية واضحة. وضعوا المبيد في المساقي أثناء الليل، لا أحد رأى شيئًا، لكننا نعرف من فعلها.»
هذا الصوت المنكسر ليس الأول من نوعه. قبل عام، شهدت إب حادثة مشابهة حين قُتل نحالان من شبوة الجنوبية برصاص مسلحين أثناء خلاف حول موقع المرعى، وتمت مصادرة معداتهم دون أن يُقدَّم أي متهم للعدالة. يقول ناشط حقوقي في المحافظة:
«ما حدث ليس صدفة. إنها سلسلة انتهاكات ضد الجنوبيين العاملين هنا. تبدأ بالمضايقات وتنتهي بالعنف، والسلطات تغض الطرف.»
الجنوبيون لا يُرحّب بهم في مراعي الشمال
التحري عن الوقائع يكشف نمطًا ثابتًا. كل الضحايا من محافظات جنوبية، وكل الاعتداءات حدثت في مناطق خاضعة للنفوذ الحوثي، حيث تغيب الرقابة المؤسسية ويُترك القضاء رهينة للتأثيرات المناطقية.
ناشطون محليون يتحدثون عن «شبكات نفوذ صغيرة» تتحكم بالمراعي وتفرض إتاوات على النحالين الجنوبيين. من يرفض الدفع، يُطرد أو يُستهدف.
يقول أحد أبناء المنطقة:
«الابتزاز يبدأ من نقاط التفتيش، حيث يُسأل الجنوبي عن هويته قبل بضاعته. بعضهم يُجبر على دفع مبالغ للسماح بمرور خلايا النحل. وإذا رفض، يُعتبر مستفزًا.»
هذا السلوك – وإن بدا عشوائيًا – يعكس نمطًا أعمق من التمييز الاقتصادي. فالنحال الجنوبي، الذي يعتمد على التنقل الموسمي في المحافظات الشمالية لتربية نحله، يُعامل كغريب لا يحق له العمل إلا بموافقة غير مكتوبة من «أصحاب الأرض».
العدالة تُغلق عينيها… حين يكون الضحية جنوبيًا
اللافت في كل الحالات السابقة أن السلطات المحلية لم تُصدر أي بيان أو توجيه بفتح تحقيق. بل تشير شهادات منظمات حقوقية إلى وجود تواطؤ ضمني، أو على الأقل تغاض مؤسسي ممنهج.
يقول قانوني مقيم في صنعاء:
«في جرائم مماثلة، يُغلق الملف لأن المتضررين جنوبيون. حتى الشكاوى لا تُسجّل رسميًا بحجة أن لا إثبات مباشر على الجناة، رغم أن الشهادات متطابقة.»
ويضيف:
«ما يحدث هو تفريغ لمبدأ العدالة من محتواه. حين يعلم الجاني أن الضحية جنوبي، فهو مطمئن مسبقًا أن أحدًا لن يحاسبه.»
هذا الصمت لا يعني فقط غياب العدالة، بل تشجيعًا ضمنيًا لاستمرار الاعتداءات، ما يحوّل الانتهاك الفردي إلى ممارسة اجتماعية متكرّرة يصعب كبحها.
رسائل بلا ردّ… ومسؤولون يلوذون بالصمت
للتحقق من هذه المزاعم، تواصلت «تحقيقاتنا» مع مسؤولين في مكتب الزراعة بمحافظة إب، التي تخضع منذ سنوات لسيطرة جماعة الحوثيين، والذين يديرون الإدارات المحلية تحت مسمّى «اللجان الثورية» و«المجالس المحلية».
مصدر رسمي في إب (رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول بالتصريح) قال:
«الجهات المختصة تتابع البلاغات، لكن معظمها غير موثق».
ورغم توجيه استفسار مكتوب إلى «اللجنة الزراعية» التابعة للحوثيين في صنعاء – الجهة التي تُشرف فعليًا على الشؤون الزراعية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم – لم نتلقَ أي ردّ حتى موعد إغلاق هذا التحقيق، رغم تأكيد استلام الرسالة من قبل مكتبهم الإعلامي.
هذا الصمت ليس استثناءً، بل جزء من نمط متكرر: فالجهات الحوثية، التي تدّعي تمثيل «السلطة الرسمية» في الشمال، لا تفتح تحقيقات في الاعتداءات ضد الجنوبيين، ولا تنشر بلاغات عنها، وكأن الحادثة لم تقع. بل إن بعض النحالين يشيرون إلى أن بلاغاتهم «تُفقد» بمجرد تقديمها إلى مكاتب محلية يديرها أشخاص من نفس المناطق التي يُشتبه في أن منفذي الجرائم منها.
ليس عسلاً فحسب… بل كرامةٌ تُسرق
بحسب تقديرات نحالين، تمثّل 400 خلية نحل ما يقارب ثلاثة أطنان من العسل في الموسم الواحد. ويقول أحدهم:
«كل خلية تحتاج إلى عام كامل من الرعاية. خسارتها تعني أن الموسم القادم ضاع بالكامل.»
لكن الأثر لا يقف عند الجانب المالي. العسل اليمني يُعرف بجودته العالية، ويُعتبر موردًا مهمًا لعشرات الأسر الريفية. ومع تكرار الاعتداءات، تتراجع ثقة النحالين بالعودة إلى المراعي الشمالية، ما يهدد بانكماش قطاع العسل المحلي وارتفاع الأسعار.
باحث اقتصادي في عدن يرى أن
«الاستهداف الممنهج للنحالين الجنوبيين يدخل ضمن إطار الحرب الاقتصادية غير المعلنة، إذ يُستخدم الضغط المعيشي لإضعاف المجتمعات المنتجة في الجنوب.»
في غياب الأرقام… تصرخ الشهادات
في ظل انهيار النظام الإحصائي الرسمي في اليمن بسبب الحرب، تبرز تقارير المنظمات المحلية المستقلة كمصدر أساسي لتوثيق الانتهاكات.
مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان (HRITC)، أحد أبرز المنظمات اليمنية، أشار في تقريره السنوي لعام 2023 إلى:
«استمرار وتصاعد حدة الانتهاكات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، مع حالات متكررة لمنع المواطنين من ممارسة أنشطتهم الاقتصادية بسبب انتماءاتهم الجغرافية أو السياسية، وسط غياب تام لآليات المحاسبة.»
التقرير نفسه يؤكد أن:
«الانتهاكات الاقتصادية أصبحت سمة بارزة من سمات الصراع، وتُستخدم كأداة للعقاب الجماعي وإضعاف الخصوم.»
هذه الشهادات الموثقة، إلى جانب روايات الضحايا الميدانية في هذا التحقيق، تؤكد معًا وجود نمط منهجي من التمييز الاقتصادي، حتى في غياب الأرقام الإحصائية الدقيقة.
التمييز لم يعد همسًا… بل ممارسة يومية
منظمات محلية مستقلة حذّرت من خطورة ما تصفه بـ«التمييز المناطقي الصامت»، مشيرة إلى أن الاعتداءات ضد النحالين ليست سوى نموذج من سلسلة أوسع تشمل سائقي النقل والمزارعين الجنوبيين في مناطق الشمال.
تقرير حديث لمنظمة «رصد للعدالة» أوصى بتوثيق هذه الحوادث ضمن ملف الانتهاكات القائمة على الهوية، مطالبًا بتدخل أممي لحماية حرية التنقل والعمل.
«حين تُستهدف لقمة العيش لأنك من منطقة معينة، فذلك ليس خلافًا فرديًا، بل عنصرية ممنهجة»، تقول المنظمة في بيانها الأخير.
العالم يرى… والجنوبيون يتألمون بصمت
على الصعيد الدولي، تؤكد تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية وجود صلة واضحة بين استهداف سبل العيش والتمييز المنهجي في مناطق النزاع.
السيدة كاميلا بالومينو، المحللة في قسم الشرق الأوسط بمجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group)، قالت في حوار عبر البريد الإلكتروني لـ«تحقيقاتنا»:
«توثيق انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، خاصة عندما تستند إلى الانتماء الجغرافي، أمر بالغ الأهمية. هذه الانتهاكات لا تقوض سبل العيش فحسب، بل تعمق من جراح الانقسام المجتمعي وتصعب عملية بناء السلام العادل والشامل في المستقبل.»
وأضافت بالومينو، التي تتابع الملف اليمني عن كثب:
«غالبًا ما يتم إغفال هذه الأنماط — خصوصًا في سياقات مثل اليمن — في تحليلات الصراع، رغم دورها المركزي في استمراره.»
تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان حول اليمن (سبتمبر 2024) لاحظ أن:
«أطراف النزاع تستخدم، بشكل متزايد، تقييد الوصول إلى الموارد ووسائل العيش كأداة للضغط والسيطرة، مما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.»
— الفقرة ٣٦ من تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان
حين يصبح الانتماء جريمة… والعمل تحدّيًا
الحادثة الأخيرة تكشف كيف تتحوّل الكراهية المناطقية إلى سلاح اجتماعي خطير.
فالعنف ضد النحالين الجنوبيين لا ينبع فقط من تعصّب فردي، بل من بيئة سياسية تشجع على الانقسام وتكافئ الولاءات المناطقية على حساب المواطنة.
وغياب الدولة – في حد ذاته – أصبح مظلة لتبرير كل جريمة لا يُعاقَب مرتكبها.
يقول أحد الباحثين الاجتماعيين في إب:
«المجتمع فقد ثقته بالقانون، والناس باتوا يعتبرون العدالة امتيازًا جغرافيًا. هذه أخطر نتيجة للحرب الطويلة.»
العدل قبل العسل
في نهاية التحقيق، تتضح الصورة القاسية:
نحالون جنوبيون يُقتلعون من أراضي عملهم،
خلايا تُباد بمبيدات الكراهية،
وسلطة فعليّة تصمت.
الضحايا لا يطالبون بتعويض فقط،
بل بحق بسيط في الأمن والكرامة.
أما السؤال الذي يبقى معلقًا في هواء إب الملوث برائحة السموم:
هل يمكن لنظام فقد ضميره أن يحمي حتى النحل، ناهيك عن الإنسان؟
تم إعداد هذا التحقيق بعد مقابلات ميدانية وتوثيق من مصادر محلية ودولية، في ظل ظروف أمنية ولوجستية بالغة التعقيد.