#رائد عفيف يكتب: جنوب الجزيرة الذي صنع الحضارة قبل أن يُسمى اليمن

رائد عفيف
كنا شعوبًا تصنع المجد، لا تستهلكه. نبني الممالك، نرسم حدود الحضارة، ونُصدّر الفكر قبل السلع. من مأرب إلى حضرموت، ومن قتبان إلى سبأ، ومن أوسان إلى حِمْيَر، كانت الأرض تنطق باسمنا، وكان التاريخ يكتب سطورًا من نور على جدران الزمن.
كانت حِمْيَر آخر الممالك الكبرى في جنوب الجزيرة العربية، ووريثة الممالك التي سبقتها، وقد بلغت في عهدها مفهوم القوة والتأثير الكامل، حتى امتد نفوذها إلى أطراف الجزيرة.
ثم جاء التحوّل، حين استبدلنا أسماء الممالك بهوية واحدة اسمها “اليمن”. لم يكن التغيير مجرد تبديل جغرافي أو سياسي، بل كان انقلابًا في الروح، في المعنى، وفي الاتجاه. لقد استبدلنا إرثًا حضاريًا عظيمًا باسمٍ يشير إلى جهة من جهات الكعبة، لا إلى مشروع حضاري متكامل.
قال رسول الله ﷺ: “اللهم بارك لنا في يمننا وشامنا”.
والمقصود بـ”اليمن” في هذا الحديث هو كل ما هو يمين الكعبة المشرفة، أي الجهة الجنوبية من جزيرة العرب، لا اسم الدولة الحديثة الجمهورية اليمنية. وهي جهة مباركة تشمل مناطق واسعة مثل تهامة، حضرموت، مأرب، شبوة، عدن، المهرة، تعز، وصنعاء، وإب، وكل مناطق اليمن اليوم، وكذلك بعض المناطق السعودية الواقعة في يمين الكعبة المشرفة.
كنا شعوبًا قوية، نبني ونحكم ونُصدر الحضارة.
ومنذ أن دخل اسم “اليمن” بديلاً عن تلك الممالك التي شيدت لنا التاريخ العظيم، أصبحنا أضعف، وتراجعنا، ولم نقدم شيئًا يوازي ما صنعه الأجداد.
الاسم وحده لا يصنع المجد، بل المجد يُبنى بالفعل، والهوية تُصاغ بالوعي والإنجاز.
نحن أبناء الجنوب العربي، منبت الممالك ومصدر البركة، وحملة الإرث الذي سبق كل الأسماء.
نحن الامتداد الطبيعي لحِمْيَر وقتبان وأوسان ومعين، ولنا صلة حضارية بممالك أخرى مثل سبأ، التي نشأت شمالًا وامتدّ نفوذها جنوبًا في فترات لاحقة ضمن توسّع الحميريين الذين ورثوا سبأ ووحّدوا الممالك تحت سلطتهم.
حتى الملوك القدماء مثل “التبع الحميري”، كانوا يفتخرون بانتمائهم لمملكتهم، ويقولون: “أنا تُبّع الأملاك من نسل حمير”، ولم يقولوا “أنا يمني”، لأن اسم اليمن لم يكن يُستخدم كهوية قومية في ذلك الزمن، بل كانت الهوية تُبنى على الانتماء للممالك لا على التسمية الجغرافية.
صنعاء بين التاريخ والهوية الرمزية
صنعاء لم تكن مملكة مستقلة في العصور القديمة، بل كانت جزءًا من نفوذ مملكة سبأ ثم مملكة حِمْيَر، وتحولت لاحقًا إلى عاصمة سياسية ودينية في عهد الحميريين. لم تكن منبتًا لمجد مستقل مثل مأرب أو شبوة أو حضرموت، لكنها احتضنت السلطة في مراحل لاحقة، بعد أن ضعفت الممالك الأصلية.
ولهذا يُصرّ البعض على اسم “اليمن” كهوية جامعة: لأن المناطق التي لم تكن مركزًا لممالك مستقلة، مثل صنعاء، تحتاج إلى غطاء رمزي يُعيد توزيع المجد الحضاري، ويمنحها شرعية تاريخية لم تكن قائمة بذاتها.
في المقابل، الجنوب العربي الذي كان منبت الممالك وصانع الحضارة، لا يحتاج إلى اسم يغطيه، بل إلى وعي يُعيد له تعريفه الحقيقي.
الهوية لا تُبنى على الاسم، بل على التاريخ والوعي والإنجاز. ومن يربط الأصل باسم حديث، يُقصي الآخرين عن عمد أو جهل. أما من يعرف جذوره، فلا يحتاج إلى إثبات، بل إلى وعي يُعيد تعريفه كما أراد له التاريخ أن يكون.
هذا المقال ليس إنكارًا لاسم، بل استدعاء لوعيٍ غاب خلف التسمية. كتبته لأعيد رسم الخريطة في العقول، لا على الورق.
نحن لا نطلب اعترافًا، بل نُعيد تعريف أنفسنا كما أراد لنا التاريخ أن نكون.
مصادر التوثيق:
– فتح الباري لابن حجر، ج6، ص353
– شرح النووي على صحيح مسلم
– التمهيد لابن عبد البر
– موسوعة الحديث – موقع الدرر السنية
– اليمن موطن الآثار – المركز الفرنسي للآثار بصنعاء
– دراسات حول الممالك الجنوبية – موقع أجراس