من أمر بإطلاق النار؟ رصاصة في سوق التربة تُعيد طرح سؤال السلطة والمحاسبة في تعز

النقابي الجنوبي/خاص/هشام صويلح
في سوق التربة المزدحم، حيث لا مكان للرصاص إلا في الأفلام، سقط عبدالرحمن عبدالحكيم النجاشي — خريج المحاماة حديثًا ونجل القاضي المعروف عبدالحكيم النجاشي، رئيس محكمة المضاربة ورأس العارة بلحج — بطلق ناري أطلقه جندي أمن.
لم يكن الخلاف يستدعي سفك دم: فقط رفض شاب السماح بوصل أنبوب ماء إلى مبنى المحكمة عبر شبكة خاصة بأسرته.
لكن السؤال الذي هزّ المدينة لم يكن “من أطلق الرصاصة؟” — فالجواب ظاهر.
بل: من أمره بإطلاقها؟
ومن يتحمل مسؤولية تحويل خلاف مدني إلى جريمة قتل في وضح النهار؟
في تعز، حيث تتداخل صلاحيات القضاء والأمن، ويُدار الأمن بولاءات حزبية أكثر من التزامات مؤسسية، قد تكون الإجابة أخطر من الجريمة نفسها.
من قال لهم: خذوه بالقوة؟
الواقعة وقعت يوم الخميس 23 أكتوبر 2025، حين رفض عبدالرحمن عبدالحكيم النجاشي، خريج الحقوق حديثًا، السماح لجهة غير محددة — يُعتقد أنها مرتبطة بمحكمة محلية — بالربط على شبكة مياه خاصة أنشأها هو وأسرته على نفقتهم لتوصيل الماء إلى مبنى المحكمة القديمة.
بحسب أسرة النجاشي والصحفي محمد الهجامي، تدخل قاضٍ في محكمة الحُجرية ووجّه عناصر أمن باقتياده “بالقوة”.
وقال مصدر أمني سابق: “هذه الجريمة لم تكن انفعالًا ميدانيًّا، بل نتيجة توجيه مباشر من داخل المنظومة القضائية”.
حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم يُصدر القاضي المُتّهم أي تعليق، ولم تنف أي جهة قضائية تورطه.
الرصاص في وسط السوق… والدم على باب القاضي
شهود عيان أفادوا أن عبدالرحمن احتمى بمحل تجاري بعد رفضه مرافقة العناصر دون أمر نيابة. فاقتحموا الباب الزجاجي، ثم استدعوا تعزيزات وصلت بطقم عسكري.
ما إن وصل الطقم حتى بدأ إطلاق النار — أولًا تجاه المنزل، ثم صوب عبدالرحمن مباشرة. رصاصة في البطن أنهت حياته على الفور، أمام عشرات المارة.
قال أحد الشهود: “كان المكان مكتظًا، والكل شاهد كيف أطلقوا النار عليه كأنه مجرم خطير، رغم أنه لم يكن مسلحًا ولا مهددًا لأحد”.
الجريمة وقعت أمام منزل والده القاضي، ما جعلها صدمة مزدوجة: إنسانية وقانونية.
الناس نزلوا… والشارع قال كلمته
لم يمر يوم واحد حتى امتلأت شوارع التربة بالآلاف. رُفعت لافتات كُتب عليها: “القصاص لدم عبدالرحمن”، “العدالة لا تُقتل”، و”لا لسلطة الأمن المنفلت”.
المحتجون نددوا بما وصفوه بـ”تغوّل الأجهزة الأمنية التابعة للإصلاح”، وطالبوا السلطات المحلية ومجلس القيادة الرئاسي بالتدخل.
ناشطون حقوقيون رأوا أن الصمت الرسمي يشجّع على الإفلات من العقاب، وأشاروا إلى أن ما يحدث في تعز “ليس انفلاتًا عارضًا، بل نظامًا موازيًا للقانون تخلقه الأجهزة الحزبية داخل الدولة”.
كان يحتفل بتخرجه… ثم قُتل
الصحفي محمد الهجامي، أحد أبناء تعز، قال إن الجريمة وقعت أثناء مرافقة الجاني لقاضٍ في المحكمة، بعد تهديدات متكررة وجّهها الأخير للضحية.
وأضاف: “عبدالرحمن كان يحتفل بتخرجه من كلية الحقوق قبل أيام، وكان يستعد لبدء عمله كمحام. لم يكن يتوقع أن أول قضية سيواجهها ستكون دفاعه عن نفسه أمام سلاح الدولة”.
شقيق القتيل توعّد بالقصاص: “دم أخي لن يذهب هدرًا، وسنلاحق القتلة ومن وجّههم مهما كانت مواقعهم”.
في المقابل، اكتفت النيابة بإعلان فتح تحقيق واحتجاز الجنود، دون أي إشارة إلى القاضي المُتّهم، ما أثار شكوكًا حول محاولات تمييع الملف.
في التربة، السلاح يسبق القانون
التربة، التي كانت تُعرف بهدوئها النسبي، أصبحت نموذجًا مصغّرًا للفوضى الأمنية في تعز.
مصادر محلية تؤكد أن أغلب أقسام الشرطة خاضعة لإشراف قيادات حزب الإصلاح ذراع جماعة الإخوان في اليمن، وأن التعيينات تتم خارج معايير الكفاءة.
يقول أحد المحامين: “لا يمكن الحديث عن عدالة في ظل سلطة السلاح الحزبي. القضاء أصبح واجهة، والأمن أداة”.
ليست المرة الأولى… ولا الأخيرة؟
جريمة النجاشي ليست معزولة. ففي أغسطس الماضي، قُتل مدير أمن مديرية التعزية المقدم عبدالله النقيب بعبوة ناسفة. وفي منتصف سبتمبر، اغتيلت مديرة صندوق النظافة أفتهان المشهري على يد مسلح يُعتقد أنه من القوات الموالية للإخوان.
هذه الجرائم، بحسب تقارير حقوقية، تشترك في نسق واحد: ضحايا غير موالين، تنفيذ بأيدٍ أمنية، ونتائج غامضة دون محاسبة.
حين يصبح القاضي جزءًا من المشكلة
ما يميّز هذه الحادثة هو تداخل القضائي والأمني في مسرح واحد: قاضٍ يُتّهم بالتحريض، وجنود يُنفّذون، مقابل ابن قاضٍ يُقتل.
هذا التناقض يكشف انهيار الضوابط بين القضاء والأمن، ويحوّل مؤسسات العدالة إلى أدوات نفوذ شخصي.
الخبير القانوني محسن المعمري يرى أن “التحريض القضائي على استخدام القوة خارج القانون جريمة توازي القتل ذاته”، مطالبًا النيابة بتوسيع التحقيق ليشمل كل من شارك في التحريض أو التغطية.
الحقوق تطالب… والسلطة تتملّص
منظمات حقوقية محلية طالبت بلجنة تحقيق مستقلة، ونقابة المحامين في تعز أعلنت تضامنها الكامل مع الأسرة.
في المقابل، حاولت قيادات أمنية أخوانية وصفت الحادثة بـ”الفردية الناتجة عن سوء فهم”، وهو ما قوبل باستهجان واسع.
ناشط مدني علّق: “كل جريمة تصبح حادثة فردية حتى تقع التالية. هكذا يتكرّس الإفلات من العقاب”.
القبائل تهدّد، والمحامون ينتفضون
التداعيات تجاوزت التربة. فمحامون في تعز بدأوا تنظيم احتجاجات رمزية أمام المحاكم، وقبائل الحجرية أعلنت دعمها الكامل لأسرة النجاشي، وهددت بالتصعيد إذا لم تُقدَّم نتائج خلال أسبوعين.
مصادر تتحدث عن ضغوط لإحالة الملف إلى مكتب النائب العام في عدن، وسط انقسامات داخل السلطة المحلية في تعز.
من يحاكم من يطلق النار باسم القانون؟
جريمة مقتل عبدالرحمن النجاشي لم تكن حادثة عرضية، بل رمزًا لانهيار العلاقة بين الدولة والمجتمع.
الرصاصة التي اخترقت جسده لم تقتل إنسانًا فقط، بل أصابت ما تبقّى من ثقة الناس بمؤسسات العدالة.
وبينما يستمر الشارع في الغليان، تواصل الجهات الرسمية إصدار بيانات غامضة.
والسؤال الأثقل يظل معلّقًا في هواء تعز: من سيحاكم الذين يطلقون النار باسم القانون؟