تحقيق.. القاضي « شاكر بنش».. حين يصبح القضاء حصناً أخيراً أمام الفقر والفساد

النقابي الجنوبي/تقرير/ عدنان قائد الحميدي
مدخــــل
في السنوات الأخيرة، وفي ظل واقعٍ يمني معقّد يتشابك فيه العنف مع الفقر، والسياسة مع القانون، عاد سؤال العدالة إلى الواجهة: هل ما يزال للقضاء القدرة على حماية الضعيف؟ التحقيق التالي لا يقدّم القاضي شاكر بنش كبطلٍ خارق أو شخصية مثالية، بل يعرض تجربة مهنية وقضائية أثارت نقاشات واسعة بين محامين ومواطنين، لأنها تدخل في صميم ما يعيشه المجتمع: الحق، والفساد، والقدرة على مقاومة الانكسار.
المحور الأول: ذاكرة المجتمع… قبل أوراق القضايا
في مدينة المكلا، لا يحتاج الناس إلى منشورات أو خطابات ليتذكّروا مرحلة استثنائية في مؤسسة النيابة العامة. مرحلة كانت ملفاتها ثقيلة ومتشعبة، لكنها مرت دون ضجيج إعلامي، ودون صفقات خلف الأبواب. هنا يظهر اسم القاضي شاكر بنش، الذي تسلم مهام رئاسة النيابة العامة في المكلا خلال فترة انتقالية شديدة الحساسية.
شهادة مواطن: «ما أردنا منه مجاملة… أردنا القانون»
ي .س، أحد سكان المكلا، يقول: “ذهبتُ بملف بسيط يتعلق بميراث عائلي. اعتدت في السابق أن أقابل موظفين يطلبون مواعيد جديدة أو إشارات مبطنة. هذه المرة لم يحدث ذلك. لم يخرج القاضي للكاميرا، ولم يبتسم للصحافة. فقط قال: أعطني الوثائق، والباقي عند القانون.”
كان جواباً عادياً في الشكل… لكن في بلدٍ اعتاد الناس فيه أن تُحلّ القضايا بغير القانون، كان لهذا الموقف وزن آخر.
المحور الثاني: رأي المحامين — بين الاحتراف والصرامة
في مكتب محاماة قريب من وسط المدينة، جلسنا مع المحامي (هـ.العكبري) وهو من الذين تعاملوا مباشرة مع النيابة خلال فترة بنش. “لم يكن من السهل تمرير ملف ضعيف الحجّة أمامه. كان يستمع، يدوّن، ثم يسأل عن النص القانوني، لا عن خلفية صاحب الملف. كثيرون ظنوا أنه بطيء، لكن الحقيقة أنه كان يثقّف الخصوم قبل أن يقرّر. هذا لا يعجب البعض.”
عندما سألناه إن كان الرجل يتساهل مع أصحاب النفوذ، جاء الرد سريعاً: “لا. وإذا كانت هناك ضغوط، فكان يفضل الصمت على الظهور الإعلامي. لم يكن من النوع الذي يلوّح باستقالة أو يصرخ في المنابر. كان يبقى في مكتبه، ويُصدر قراراً موثقاً… وهنا تبدأ العاصفة.”
المحور الثالث: السياسة والشارع… من ساحات الحراك إلى قاعات المحاكم
لم يتكوّن اسم القاضي شاكر بنش داخل قاعات القضاء فقط. قبل ذلك، ظهر في ساحات الحراك الجنوبي، لكن دوره هناك لم يكن خطابياً أو دعائياً. كان دوراً قانونياً: شرح النصوص، توعية المشاركين بالمسارات الرسمية، وتجنّب المواجهات التي قد تُحوّل المطالب إلى جرائم.
هذا المسار جعل الرجل، وفقاً لأحد ناشطي المكلا (و.ب .. … لا نحب ذكر اسمه ): “حاضراً بلا صراخ. لم يكن ثورياً في القاموس الذي يحبّه الشارع، لكنه كان ثائراً قانونياً. يضع حدوداً للقوة، ويذكر الجميع أن الدولة لا تُصنع من الغضب فقط… بل من العدالة.”
المحور الرابع: صدامات غير معلنة — حين يصبح القانون مكلفاً
تجربة القضاء لا تخلو من الخصوم، خاصة حين يتعلق الأمر بملفات فساد.
يقول موظف سابق في الجهاز الإداري — فضل عدم ذكر اسمه — إن بعض القضايا “أزعجت أطرافاً نافذة”، مضيفاً: “كانت هناك طلبات تسوية ‘وديّة’، مثلما يسمونها. لا يرفعون الهاتف مباشرة إليه… بل إلى المحيط. وكنّا نسمع الرد: القانون أو لا شيء.”
هذه الردود لم تكن مناسبة لمناخٍ يبحث فيه البعض عن قاضٍ يوقّع فقط.
لكنها، وفق وصف محامي آخر، خلقت له احتراماً صامتاً: “كان يمكنه أن يترك الملف على الرف، كما يفعل كثيرون… لكنه لم يفعل. وقد دفع ثمن ذلك، ليس من الإعلام، بل من العزلة المهنية.”
المحور الخامس: الفقير… ونظرية العدالة الصامتة
ليس كل مواطن يذهب إلى النيابة بقضية كبيرة.
بعضهم يأتي بوجوه مرهقة: نزاع على أرض، خلاف عائلي، راتب منقطع، أو مطالبة بسيطة بالإنصاف.
هؤلاء وجدوا — ولو على نطاق محدود — نافذة ثقة.
أمّ أربعينية من حي باعبود روت تجربتها: “لم أكن أعرف ماذا أفعل. ورقة سلمتها من شخص لا أعرفه. أرسلوني للنيابة. لم يسألني أحد من أنتِ؟ أو هل لديكِ واسطة؟ قالوا فقط: اكتبي ما حدث. بعد شهرين وصلتني المكالمة: تعالي خذي قرار النيابة.”. تقول وهي تخفي دموعها:
“كان أول مرة أحس أن في البلد قانون.”
المحور السادس: صعود إلى منصب أعلى… جدل بلا ضجيج
مع انتقاله لاحقاً إلى منصب نائب رئيس المكتب الفني بديوان النائب العام ، كان السؤال دائماً: لماذا هو تحديداً؟
المحامي العكبري يعلّق: “ليس لأنه الأقرب سياسياً. بل لأنه الأقل قابلية للبيع. وهذا النوع من القضاة لا يحبّه الفاسدون، لكنه يحتاجه المجتمع.”
أما أحد الإداريين القضائيين في عدن فيختصر الأمر: “الرجل قد لا يرضي الجميع، لكنه لا يغلق باباً في وجه القانون.”
المحور السابع: قراءة مهنية — عدالة بلا تصفيق
تحليل شخصية بنش ليس في سمات فردية، بل في منهجه:
لا يراهن على الإعلام:
الملفات تبقى في الأدراج القانونية لا الشاشات.
لا يُفرّق بين قضايا الغني والفقير:معيار واحد: المستند والقانون.
يتعامل مع الفساد كخللٍ مؤسسي لا كحرب شخصية:
لا يشيطن الخصوم… ولكنه يعالج الأدلة.
لا يبني تحالفات مصلحية:
وهذا ما يجعله هدفاً سهلاً لخصوم النفوذ، وصعباً في آنٍ واحد.
خاتمة التحقيق
في بلدٍ تتداخل فيه السياسة بالمال، ويخشى فيه المواطن أن يسأل عن حقه، يصبح وجود قاضٍ يلتزم بالحد الأدنى من الاستقامة قضية عامة، لا تفاصيل شخصية.
القاضي شاكر بنش ليس معصوماً لكنه نموذج لمسار قضائي يقول:
العدالة ليست صوتاً مرتفعاً، بل قراراً مكتوباً يُنقذ إنساناً واحداً.
ربما لن يتفق الجميع حول تقييمه، لكن من الواضح أن تجربة الرجل تضع أمامنا سؤالاً أبعد من الأسماء:هل نريد قضاةً يشبهون مكاتبهم، أم قضاةً يشبهون القانون؟