د. عيدروس يكتب: عاصفة زُهران ممداني

د. عيدروس نصرناصر النقيب
لم يكن الكثيرون، وربما الغالبية من المتابعين للشأن الأمريكي يتوقعون أن يصل إلى منصب العمودية لمدينة أمريكية كبرى مثل نيويورك، شخص من الأقليات الوافدة إلى أمريكا وخصوصاً من الأقلية المسلمة، في ظل مجتمع مشحون بالثقافة الترامبية القائمة على العنصرية والتعالي وازدراء الأقليات والكراهية ضدها وتنامي ثقافة الأنانية والطمع، وتكريس فكرة الربح والكسب المادي كأساس للحياة الاجتماعية وللعلاقات بين أفراد وشرائح المجتمع ومكوناته الفئوية والعرقية.
لكن زُهران ممداني (وعلى الأرجح ظُهران محمداني) ، كسر كل هذه المسلمات المبنية على تصاميم المجتمع الأمريكي الذي تغمره الطبقية الفجة، والتمايز الاجتماعي القبيح، وصرنا نسمع وللمرة الأولى في تاريخ السياسة الأمريكية رجلاً يتحدث مدافعاً عن مصالح عمال المطابخ وسائقي سيارات الأجرة وفئات العاجزين عن دفع إيجارات منازلهم، وعن دعم الأسر الفقيرة التي تعجز عن تعليم أبنائها، وصار يعلن على الملا إنه اشتراكي ديمقراطي، ويلاقي التصفيق العاصف من الجمهور الذي يستمع إلى خاطابه، وعلينا أن نعلم أن مفردة “اشتراكي” تمثلُ في اللغة السياسية الأمريكية تهمةً يدان بها كل من تُوَجَّه إليه، فما بالنا بمن يعلن اعترافه بها ويستعرضها كصفة له بفخر ومباهاة.
زهران مامداني، هو السياسي الأول في أمريكا الذي يوجه لإسرائل تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حربها على غزة ويهدد باعتقال ناتانياهو إذا ما وطئت قدماه أراضي ولاية نيويورك دون أن يخشى ردود أفعال اللوبي الصهيوني ورؤوس الأموال الصهيونية المتحكمة في صناعة القرار الأمريكي وفي وسائل الإعلام الأمريكية.
خلال حملته الانتخابية ووجه مامداني بحملة إعلامية مغرضة وكرَّس أكثر من 28 مليارديرا من كبار أثرياء نيويورك أموالهم لتشويه صورته، وقيل إنه سيلبس تمثال الحرية العباءة السوداء وقيل عنه أنه معادٍ للسامية و إنه كمرشحٍ مسلم سيدخل الإرهاب وداعش إلى أمريكا، لكن كل هذه التحالفات والدعايات المغرضة سقطت أمام أصوات الناخبين، إلى درجة أن بعض التجمعات اليهودية غير الصهيونية في أمريكا أعلن تبرؤها من رفض ترشيحه، وبرأته من تهمة العداء للسامية وأعلنت أنها وكل أنصارها ستنتخب مامداني وهذا ما جرى يوم الانتخابات.
فوز مامداني ليس مكسباً للإسلام والمسلمين وحدهم في ولاية نيويورك الأمريكية، بل إنه مكسبٌ لاتجاهات العدالة والحرية والديمقراطية الحقيقية التي لا تصنعها جماعات الضغط السياسي ومراكز كبار المليارديرات الذين يشترون المرشحين بأموالهم ثم يشرعون في إملاء مطالبهم على هؤلاء المرشحين نواباً كانوا أو أعضاءً في مجالس الولايات أو حكاماً لها.
ظهور زهران مامداني في مسرح السياسة الأمريكية، وفوزه بمنصب حاكم أشهر وأكبر ولاية أمريكية، ليس صدفةً من الصدف جاءت بلا أسباب أو مقدمات، ولا هو حالةٌ عابرة يمكن أن تمر بدون تداعيات ونتائج، بل إنه يمثل لحظة تحول تاريخية سيكون لها ما بعدها، لحظة تحول في الوعي السياسي في مدينة نيويورك، وظهور جيل جديد من السياسيين الأمريكيين يمزق شرنقة النهج السياسي التقليدي للحزبين النافذين في الحياة السياسية الأمريكية (الديمقراطي والجمهوري)، وربما مثَّل هذا الفوز عاصفةً سياسية عبرت عن حالة من الوعي الجديد لدى الناخب الأمريكي الذي ظل لعقود طويلة من الزمن أسير الهيمنة الأعلامية للمؤسسات الصهيونية المتزاوجة مع كبريات المؤسسات الرأسمالية (المالية-الصناعية-التجارية) في أمريكا، بعد أن كشفت أحداث عالمية مزلزلة مثل حرب العدوان على غزة وسياسات الإبادة الجماعية والفصل العنصري، في إسرائيل الموجهة ضد الشعب الفلسطيني، تورط الطبقة السياسية الأمريكية ليس فقط في السكوت عن تلك الجرائم بل وحمايتها وتمويلها والدفاع عن مرتكبيها في المحافل الدولية ومراكز صنع القرار الدولي عبر منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، ما دفع الناخب الأمريكي إلى اكتشاف الخديعة التي ظل هو ضحيتها على مدار عشرات وربما مئات السنين.
من السابق لأوانه التنبؤ بنسبة النجاح التي يمكن أن يحققها مامداني، في تنفيذ برنامجه السياسي، فمراكز القوى النافذة في أمريكا وفي نيويورك على وجه الخصوص، إن كانت قد فشلت في إعاقة فوزه بموقع حاكم الولاية، فإنها لن تيأس عن محاربته وإعاقة برنامجه السياسي ولو اضطرت إلى ارتكاب كل الممنوعات والمحرمات، وما مصير جون كندي وقبله إبرهام لينكولن عن الذاكرة التاريخية للأمريكيين ببعيد.
لكن المهم إن عجلة التغيير قد بدأت في الدوران ولن تتوقف، كما لن يكون مامداني حالة منفردة وحيدة، بل إن في أميركا سينشأ مئات المامدانيين، اليوم وغدا وعلى مدى العقود القادمة.