محمد الديني يكتب: ملامح أنهكها الغياب

محمد الديني
لم تعد الشوارع كما كانت، ولا الوجوه التي تعبرها تحمل ما كانت تحمله من بريق الحياة أو بقايا أمل. صار المارّ في طرقات المدينة يلتقط من العيون حكايات طويلة عن الصبر، عن الخيبة، عن الانتظار الذي طال أكثر مما يُحتمل.
في كل زاوية، يمكنك أن ترى وجهاً يحمل ملامح العجز. رجال فقدوا الإحساس بمعنى الراتب، ونساء يخفين خلف ثيابهن المثقوبة صراع البقاء الكريم. أطفال يبتسمون رغم الجوع، لأنهم لم يعرفوا بعد أن الحياة ليست بهذا القدر من القسوة فحسب، بل بما هو أعمق: أن تعيش بلا أمان ولا دخل ولا وعد قريب بالخلاص.
الراتب الذي غاب لم يكن مجرد مبلغ مالي، بل كان ما تبقّى من خيطٍ يربط الناس بالحياة. ومع كل شهر يمرّ دون أن يطرق أبوابهم، يبهت لون الأمل في الوجوه، ويزداد ثقل الأيام. صار الناس يحسبون الوقت لا بالأيام، بل بعدد الديون المتراكمة، وعدد الوجبات التي تقل يوماً بعد يوم.
تتأمل الوجوه في الشوارع، فتشعر وكأنها كلها تشترك في ملامح واحدة: وجوه مرهقة، صامتة، تحاول أن تخفي وجعها خلف انشغال مصطنع. في العيون حزن دفين، وفي الخطوات ثقل الغد الذي لا يعد بشيء. حتى الضحكات، إن وُجدت، تأتي مجروحة، قصيرة، كأنها اعتذار للحياة عن لحظة فرحٍ في غير أوانها.
في المساء، حين تهدأ الحركة وتُغلق المحلات، تبقى المدينة كأنها تتنفس بصعوبة. صمتها يحكي ما لا يقال، يختزن تنهيدات الأرامل، ودموع الآباء الذين يعودون إلى بيوتهم بأيدٍ فارغة. لا شيء أقسى من أن تنظر في عيون أطفالك ولا تجد ما تقدمه سوى الوعد الكاذب بأن “الغد سيكون أفضل”.
أما الدولة، فقد اختارت الصمت وكأنها لا ترى هذا المشهد اليومي الموجع. صمتٌ يوازي القسوة، وتجاهلٌ يكشف حجم الفجوة بين الحاكم والمحكوم. تمر الشهور، ولا يُسمع سوى الوعود التي تبخرت، والبيانات التي تبرر العجز وكأن الجوع يمكن تبريره. المسؤولون يزدادون ثراءً، والشعب يزداد وجعاً، وكأن كلاً منهم يعيش في وطن مختلف، لا يجمعهم سوى اسم على الخريطة.
وما يزيد الجرح عمقاً، أن العالم صامت هو الآخر، والدول الراعية للسلام منشغلة بتقاريرها واجتماعاتها بينما يموت الناس ببطء في صمت. لا أحد يسأل: أين الراتب؟ أين الكرامة؟ أين صوت الإنسانية؟ الكل يعرف الحقيقة، لكنهم جميعاً يمرون من أمامها كما يمرّ الغريب أمام مأساة لا تعنيه.
وهكذا، يواصل المواطن المطحون حمل هذا الوطن على كتفيه، فيما تتكئ السلطة على ظهره لتكدّس الأموال وتبرر الفشل. ومع كل صباح جديد، يولد صبر جديد، لا لأنه طاقة، بل لأنه لم يتبقَّ خيار آخر سوى الاحتمال