اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

العبوة التي كشفت اللعبة.. من حاول اغتيال العميد رزيق؟ تحقيق استقصائي حول خيوط الجريمة المموهة في قلب تعز

 

النقابي الجنوبي/تحقيق وتحرير: هشام صويلح

تعز.. المدينة التي تشتعل تحت الرماد

لم تكن محاولة اغتيال العميد عدنان رزيق، قائد اللواء الخامس حرس رئاسي، حدثًا عابرًا في مدينة اعتادت سماع دوي الانفجارات وبيانات التنديد. لكنها، هذه المرة، جاءت كصفعة تكشف هشاشة منظومة الأمن في تعز، وتُعيد طرح سؤال قديم: من يتحكم فعليًا في الشارع حين تتقاطع ولاءات القوة مع أجندات سياسية متضاربة؟ الرجل الذي يُعرف بانضباطه العسكري وصلابته في مواجهة الحوثيين، أصبح هدفًا لتفجير محكم في منطقة خاضعة لسيطرة أجهزة أمنية محلية — في قلب المدينة التي تحولت إلى مسرح تصفية الحسابات بين شركاء الأمس.

تفجير مُحكم في قلب المدينة

في صباح الخميس 23 أكتوبر 2025، وقع انفجار عند مرور موكب العميد رزيق في أحد شوارع وسط تعز، مخلفًا إصابته ومقتل اثنين من مرافقيه. لم تكد سحابة الدخان تتبدد حتى سارعت منصات إعلامية مرتبطة بالقيادة العسكرية الإخوانية في المدينة إلى اتهام الحوثيين بتنفيذ العملية عبر طائرة مسيرة، محاولة حصر المشهد في إطار المواجهة التقليدية بين “الشرعية” و”المليشيا”. غير أن مصادر ميدانية وأمنية كشفت رواية مختلفة.

شهود عيان تحدثوا عن انفجار عبوة ناسفة زُرعت على جانب الطريق في منطقة تُعد من أكثر النقاط أمنًا في المدينة. أحدهم قال إن صوت الانفجار كان قريبًا جدًا من الأرض، وليس من الجو، وهو ما يتناقض مع فرضية “المسيرة الحوثية”. وأكد آخرون أن العملية كانت “محلية التنفيذ”، نظرًا لدقة اختيار الموقع وتوقيته أثناء مرور الموكب بدقائق محددة.

مصدر أمني في المدينة — طلب عدم ذكر اسمه — أشار إلى أن التحقيقات الأولية ترجّح أن الخلية المنفذة “تعمل داخل تعز منذ أشهر وتلقت دعمًا لوجستيًا عبر وسطاء”، مشيرًا إلى أن طبيعة التفجير تحمل بصمات عمليات سابقة استهدفت ضباطًا مناوئين للسلطة العسكرية الإخوانية في المدينة. وأضاف أن مسرح الجريمة “شهد تدخلًا سريعًا بعد الحادث، إذ تم إخلاء المنطقة بسرعة غير مبررة، ونُقلت بعض بقايا العبوة إلى جهة مجهولة”.

الروايات المتضاربة: من العبوة إلى الطائرة المسيرة

بعد ساعات من الانفجار، ظهر إعلام عسكري تابع لمحور تعز الإخواني بتقرير مصور يتحدث عن “هجوم حوثي بطائرة مسيرة”. المفارقة أن التسجيل الذي عُرض لم يُظهر أي أثر لسقوط جسم من الجو أو احتراق ناتج عن شظايا طائرة، بل مجرد حفرة أرضية وآثار انفجار جانبي. وفي اليوم التالي، عاد الإعلام ذاته لينشر رواية جديدة مفادها أن “التحقيقات جارية لمعرفة نوع المقذوف المستخدم”.

هذا التناقض دفع الناشطة السياسية أروى الشميري إلى وصف أداء إعلام السلطة الإخوانية في تعز بأنه “مربك ومتناقض”، قائلة إن تضارب الروايات “يكشف محاولات للتغطية على الجريمة أكثر مما يسعى لتوضيحها”. وتضيف:

“إذا كانت طائرة مسيرة، فلماذا لم تُستهدف القيادات العليا التي تتحرك في المكان نفسه؟ حالة التخبط هذه تُظهر حجم الفبركة التي ترافق رواية السلطة المحلية.”

من جانبه، يرى الناشط السياسي محمد الباشا أن استهداف العميد ١رزيق “ليس حادثًا عرضيًا بل جزء من مخطط متدرج لإضعاف القيادات الوطنية في تعز”، متسائلًا:
“من المستفيد من زعزعة الأمن وإرباك المقاومة؟ ولماذا يُستهدف أنبل رجال المدينة؟”

نمط متكرر من التصفية الداخلية

تتكرر في تعز، منذ سنوات، حوادث اغتيال تتشابه في الأسلوب والتوقيت والضحايا: عبوة ناسفة في شارع مألوف، رواية إعلامية سريعة تحمّل الحوثيين المسؤولية، ثم اختفاء الملف دون محاسبة. أبرز تلك الحالات كانت اغتيال العميد عدنان الحمادي، وأبو الصدوق، والعديني، والنقيب — جميعها وقعت في بيئة أمنية متداخلة بين المحور العسكري وسلطة المدينة.

في هذا السياق، يقول خبير أمني مطّلع:
“كل المؤشرات تدل على أن العملية نُفذت بعناصر مدربة تعمل ضمن شبكة صغيرة داخل تعز، تحصل على دعم مالي ولوجستي، وتُنسّق مع جهات إعلامية لتوجيه السرد بعد التنفيذ.”

ويضيف أن “الخلية ليست منفصلة عن المشهد السياسي، بل تعمل كأداة تنفيذية في لعبة النفوذ داخل المحافظة، حيث يتم تصفية المنافسين أو معارضي التوجه الإخواني تحت ستار الحرب مع الحوثي.”

هذه القراءة الأمنية تتقاطع مع ملاحظات ميدانية تشير إلى أن المنطقة التي وقع فيها التفجير تخضع لإشراف وحدات عسكرية تدين بالولاء لقيادات محسوبة على حزب الإصلاح ذراع تنظيم الإخوان في اليمن. كما أن سرعة وصول الكاميرات الإعلامية إلى موقع الحادث — قبل فرق التحقيق — تثير تساؤلات حول التنسيق المسبق.

توجيهات عليا وتحديات ميدانية

في المقابل، أصدرت قيادة مجلس القيادة الرئاسي توجيهات صارمة بالتحقيق في محاولة الاغتيال، مشددة على “ضرورة كشف ملابسات الحادث ومحاسبة جميع المتورطين”. مصدر حكومي وصف هذه التوجيهات بأنها “خطوة لإعادة الاعتبار للثقة العامة”، لكنها اصطدمت بجدار المماطلة داخل الأجهزة الأمنية في تعز، حيث تسعى بعض القيادات الإخوانية إلى حصر القضية في إطار “عمل إرهابي خارجي” لتجنّب الإشارة إلى الخلل الداخلي.

ويرى مراقبون أن التناقض بين موقف القيادة الرئاسية ورواية السلطة الإخوانية المحلية “يكشف فجوة عميقة في إدارة الملف الأمني”، مؤكدين أن “التوجيهات العليا فقدت فعاليتها بفعل البنية المزدوجة للقوة داخل تعز، حيث تتقاسم الأجهزة الأمنية الولاءات الحزبية أكثر من التراتبية المؤسسية.”

ما الذي تكشفه العبوة؟

محاولة اغتيال العميد رزيق كشفت أكثر من مخطط اغتيال؛ فقد أظهرت:

1) فشل التنسيق الأمني: رغم وجود أجهزة متعددة، لم تُمنع عملية دقيقة التخطيط.

2) استغلال الإعلام كأداة تغطية: الرواية الرسمية سعت إلى تحميل الحوثيين المسؤولية قبل اكتمال التحقيق.

3) استمرار نمط التصفية الداخلية: الجريمة ليست فردية، بل جزء من سلسلة تستهدف شخصيات قادرة على فرض الانضباط.

هشاشة سلطة الدولة: التوجيهات الرسمية تبقى حبرًا على ورق ما لم تُترجم على الأرض.

كل المؤشرات ترسم صورة متماسكة: الجريمة ليست انفصالًا عن سياقها، بل حلقة جديدة في نمط متكرر، تتقاطع فيه أدوات الأمن مع حسابات سياسية محلية، وتستفيد منه جهات داخلية وخارجية على حد سواء — من الولاءات الإخوانية التي تسعى لفرض هيمنتها، إلى الحوثيين الذين يجنون ثمار الفوضى دون أن يرفعوا إصبعًا.

تعز بين الفوضى والسيادة

محاولة اغتيال العميد رزيق ليست حادثة عابرة، بل مرآة لصراع الأجنحة داخل المنظومة العسكرية والسياسية في المدينة. رصد الأدلة والشهادات يوضح أن السيطرة على المعلومات والتلاعب بالتحقيقات أصبحت أدوات حاسمة في صراعات النفوذ المحلي، وأن أي مواجهة حقيقية للتهديدات الأمنية تتطلب مقاربة شاملة تشمل: قطع خطوط الدعم اللوجستي والمالي للخلايا الإرهابية، تعزيز الرقابة الاستخباراتية وتنسيق جهود المجتمع المدني مع الأجهزة الأمنية، محاسبة جميع المتورطين دون استثناء لضمان استعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.

إن استقرار تعز وأمنها لن يتحقق إلا عبر كشف الحقائق، وفضح التلاعب الإعلامي، ومحاسبة الأطراف التي تحاول تحويل المدينة إلى ساحة لتصفية الحسابات، بعيدًا عن أي مواجهات خارجية.

سؤالٌ لا يزال معلّقًا:

حتى اليوم، لم تُطلِع السلطات المحلية أي جهة مستقلة على لقطات الكاميرات الأمنية المحيطة بموقع الانفجار — رغم وجود كاميرات موثّقة على مداخل الحي. كما أن شهود العيان الذين وصفوا بدقة طبيعة الانفجار وتناقضه مع رواية “الطائرة المسيرة” لم يُبلّغ عن استدعائهم للإدلاء بشهاداتهم أمام فرق التحقيق الرسمية. لماذا يُدار ملفٌ بهذه الخطورة وكأنه سرٌّ داخلي؟ ومن يخشى من أن تكشف الكاميرات ما لم تقله الروايات؟

زر الذهاب إلى الأعلى