اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.
تحقيقات

كشوفات الإعاشة.. ثقب أسود يبتلع المال العام بين شرعية الخارج ومعاناة الداخل

 

النقابي الجنوبي/خاص

في بلدٍ أنهكته الحرب منذ سنوات لم يعد النزيف محصورًا في جبهات القتال ولا في معاناة المدنيين وحدهم، بل تمدد إلى عمق مؤسسات الدولة المزعومة التي تحولت إلى أدوات للثراء السريع على حساب شعب يتضور جوعًا. فمنذ أن غادرت قيادات الاخوان وحلفاؤهم الداخل اليمني عام 2015، تاركين صنعاء اليمنية لمليشيات الحوثي مفضلين حياة الفنادق والمهجر، انفتح الباب واسعًا أمام واحدة من أبشع صور الفساد كشوفات الإعاشة الشهرية بالدولار والريال السعودي.

 

هذه الكشوفات لم تكن مجرد أرقام على ورق، بل صارت ثقبًا أسود يلتهم مليارات الدولارات من أموال اليمنيين وودائع الأشقاء، لتصب في جيوب قلة مرفهة فيما يواجه الملايين في الداخل شبح الجوع وانعدام الدواء وغلاء الوقود وتدهور العملة. وبينما تتكدس أرصدة المسؤولين في الخارج يظل الشعب في الداخل وحيدًا أمام معركة البقاء.

 

تغيير مسمى الراتب بالدولار إلى إعاشة

 

بدأت القصة بمبادرة سعودية عام 2015، عندما أقرت اعتماد صرف مخصصات مالية بالدولار والريال السعودي لكل الذين فروا إلى أراضيها من القيادات اليمنية من الوزراء وأعضاء مجلسي النواب والشورى والعناصر الإعلامية المستقطبة من العمالة المقيمة من البطحا في الرياض وسوق الخيمة بجدة بمبالغ تراوحت ما بين (5 – 7 آلاف دولار) شهريًا.

 

استمر هذا الترغيب قرابة عامين قبل أن تتوقف السعودية عن الدفع ليجد قادة الشرعية اليمنية ضالتهم في ابتداع فكرة موارد النفط والغاز حيث جرى تحويل عوائدها بشكل دوري إلى حساباتهم في البنك الأهلي السعودي ومن ثم توزع على المنتفعين وأقرباءهم وأصحاب أولادهم.

 

لتفادي أي مساءلة قانونية جرى في نهاية 2019 تغيير المسمى من رواتب إلى إعاشة لكن الجوهر بقي واحدًا.. مخصصات منتظمة تضمن الرفاهية للمسؤولين وأسرهم في الخارج بينما يحرم الموظفون والجنود في الداخل من رواتبهم لأكثر من ثلاثة أشهر ويواجه المواطنون انهيارًا متسارعًا في قيمة العملة اليمنية وغلاءً فاحشًا يهدد حياتهم اليومية.

 

رواتب ثلاثية لنخبة الشرعية

 

المفارقة الصادمة أن نخبة نافذة من قادة الشرعية كانت تتقاضى ثلاثة أنواع من الرواتب في آن واحد:

– راتب بالريال اليمني عبر الحكومة في عدن وفق الهيكل الرسمي.

– مخصص بالدولار من مكتب مالية رئاسة الوزراء في الرياض.

– راتب بالريال السعودي ضمن كشوفات خاصة قدمتها المملكة.

وتصدَّر القائمة رؤساء حكومات سابقون، وزراء حاليون وسابقون، وأعضاء مجلسي النواب والشورى فضلًا عن قادة عسكريين وأمنيين. هذا التعدد في مصادر الدخل لم يكن سوى انعكاس لشبكة فساد متداخلة تشرعن النهب عبر مسميات مختلفة فيما يغرق البلد في أزمات لا حصر لها.

 

الشعب في الداخل يصارع الفقر

 

شرعية الفنادق في الرياض لم تعر ما يكابده المواطن على الأرض في الداخل فبينما تتكدس حسابات مسؤولي الشرعية بالدولار والريال السعودي ظل المواطن البسيط يواجه كارثة معيشية غير مسبوقة من انهيار العملة المحلية، غلاء المواد الغذائية، شح الأدوية، ارتفاع أسعار الوقود وأجرة المواصلات، وإيجار المساكن، وغاز الطبخ، وانعدام فرص العمل وبقية المتطلبات الأخرى.

 

وما زاد الوضع قتامة عملية إيقاف تصدير النفط منذ أكتوبر 2022 بعد الهجمات التي شنتها مليشيات الحوثي على مينائي النشيمة وقنا في محافظة شبوة وميناء الضبة بمحافظة حضرموت غير أن شرعية فنادق الرياض لم تبادر إلى حلول جذرية بل لجأت إلى الوديعة السعودية المخصصة لدعم الاقتصاد الوطني كحل البديل لتأمين ديمومة الثقب الأسود من الإعاشة الشهرية بالدولار التي كان يفترض أن تنحصر مهمتها في معالجة وتحسين أسعار الصرف وتعزيز قيمة الريال اليمني وإيقاف تدهور العملة المحلية إضافة إلى شراء السلع الغذائية والاستمرار في صرف مرتبات الموظفين فعمدت إلى نهب كل وديعة تقدمها السعودية وتعتمدها إعاشات شهرية لها وحاشيتها في أقبح صورة من صور الفساد.

 

الخزانة الأمريكية تكشف المستور

 

تفاقم الفساد لدرجة دفعت وزارة الخزانة الأمريكية إلى التدخل حيث أعلنت قوائم أولية للمتورطين في العبث بالوديعة السعودية ضمت أسماء بارزة في الشرعية اليمنية كما شملت شركات ومؤسسات مالية كبرى إضافة إلى شبكات صرافة.

 

هذا الكشف مثّل ضربة قاسية لصورة الشرعية اليمنية وأعاد إلى الواجهة الحديث عن إمكانية فرض عقوبات دولية على شخصيات بارزة ما لم تُتخذ إصلاحات عاجلة لوقف النزيف.

 

العليمي وبن بريك.. صراع داخل الشرعية

 

إيقاف صرف قوائم ما يُعرف بكشوفات الإعاشة الشهرية بالدولار فجر صراعا محموما بين رئيس مجلس القيادة رشاد العليمي الذي يتمسك بصرفها لغير المستحقين من اليمنيين المقيمين في دول المنفى الرياض وقطر والقاهرة وتركيا وبين قائد معركة “الإصلاحات الاقتصادية” رئيس الوزراء سالم بن بريك الذي بدأ منذ توليه الحكومة انتهاج سياسة محاربة الفساد وتجفيف بؤره.

 

مع توليه رئاسة الحكومة في مايو 2025، أطلق رئيس الوزراء سالم بن بريك معركة مفتوحة ضد كشوفات الإعاشة واصفًا إياها بأنها “ثقب أسود يبتلع ملايين الدولارات شهريًا”.

 

هذه الكشوفات التي تبدو وكأنها معاشات تقاعدية للكسل السياسي تُصرف خارج نطاق الرواتب الرسمية إلا أنها تبتلع أموال الدولة تحت عنوان “ترضيات سياسية” يستفيد منها سياسيون وعسكريون ومطبلون على مواقع التواصل الإجتماعي محسوبون على قوى نافذة معظمهم عناصر حزب الإصلاح الإخواني إضافة إلى شخصيات كان ولاؤها لصنعاء ولا تزال علاقاتها الدافئة مع مليشيات الحوثي قائمة كما تصرف لعائلاتهم وأولادهم والمقربين من سكرتاريات مكاتبهم فيما يرى البعض منهم من الفئة المستفيدة أنها استحقاق مكتسب لاستمرار رفاهيتهم في المهجر وامتلاكهم الفلل وزيادة أرصدتهم في البنوك.

 

ففي القاهرة وحدها يتقاضى نحو ثلاثة آلاف اسم مبالغ تصل إلى عشرة آلاف دولار شهريًا دون أي جهد يُذكر سوى تحديث حساباتهم البنكية بانتظام إلا أن العليمي وعلى طريقة السلامة أهم من الشفافية يرى أن إيقاف هذه المخصصات قد يفتح عليه أبواب جهنم من الأطراف المستفيدة ويفجر خلافات سياسية هو في غنى عنها وكأن الفساد صار صمام أمان الوحدة الوطنية.

 

لا يقف الملف عند حدود الفساد المالي، بل يتداخل مع الحسابات المناطقية والسياسية. إذ أن معظم المستفيدين من كشوفات الإعاشة ينتمون إلى دوائر نفوذ حزب الإصلاح، أو شبكات مصالح مرتبطة بصنعاء سابقًا. أي محاولة لوقف هذه المخصصات تُفسر كاستهداف مباشر لمصالحهم، فيتكتلون ضد أي إصلاحات، حتى لو كان الثمن استمرار انهيار الدولة.

 

باتت قضية الإعاشة حديث الشارع يتساءل الناس يوميًا إلى متى يستمر نزيف المال العام فيما يعجز المواطن عن توفير لقمة العيش مع أن خفايا الملف كشف أن كثيرًا من الأسماء المدرجة في الإعاشة لم تشارك يومًا في مواجهة الحوثي بل بعضها كان على علاقة وثيقة بالجماعة.

 

هذا الغضب الشعبي يضع الحكومة أمام اختبار حقيقي: إما أن تثبت جديتها في محاربة الفساد وتجفيف منابعه أو أن تسقط أمام أول امتحان حقيقي لثقة الناس بها.

 

إثراء فئة وإفقار شعب

 

قضية الإعاشة ليست مجرد ملف مالي، بل تعبير صارخ عن بنية فساد عميقة تشكلت منذ 2015، وجعلت من الحرب اليمنية مصدر إثراء لفئة محدودة مقابل إفقار شعب بأكمله. إنها أزمة أخلاقية وسياسية واقتصادية تعكس غياب مشروع وطني جامع وسيطرة منطق الغنيمة على ما يسمى بالشرعية.

 

اليوم، يقف اليمنيون أمام لحظة فارقة: إما المضي في معركة الإصلاح التي يقودها رئيس الوزراء سالم بن بريك رغم ما تحمله من مخاطر سياسية أو الاستسلام لاستدامة الفساد باعتباره “أداة توازن” هش، لكن كلفته استمرار النزيف وانهيار ما تبقى من مقومات الدولة.

 

وفي ظل هذا الصراع، يبقى الشعب هو الخاسر الأكبر عالقًا بين شرعية فنادق الرياض وفساد كشوفات الإعاشة من جهة وجماعة الحوثي بسلطتها القمعية من جهة أخرى وبين الطرفين تضيع الآمال في مستقبل أفضل.

زر الذهاب إلى الأعلى