اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

تكريم أم تصفية حسابات؟!

علي محمد سيقلي

أكتب وأنا أبتسم ابتسامة سخرية، نصفها الثاني مبلل بالدهشة من قدرة البعض على تحويل أبسط خبر إلى محرقة جدل، وكأن الدنيا لم يتبق فيها غير حفلة تكريم فتحي بن لزرق لنتعارك حولها.
الخبر كان بسيطا: شرطة عدن تكرم صحفيين وإعلاميين، وعسكريين، وقضاة ومحامون، ونشطاء من اللجان المجتمعية، شاركوا في إنجاح أسبوع مكافحة المخدرات.
لكن بما أن بيننا هواة النبش والتنقيب عن أي مسمارٍ يمكن غرسه في ظهر النجاح، فقد تحول التكريم فجأة إلى محكمة شعبية، وصار فتحي بن لزرق في نظر البعض ليس صحفيا جنوبيا، بل خصما لدودا يجب محاكمته لأنه كرم وهو حي يرزق.
كأنّ التكريم أصبح جريمة، وكأن من كرم يجب أن يسأل:
“لماذا لم تكرموا فلانا؟ وماذا عن علان؟
الموضوع لم يكن عن شخص بعينه، بل عن كوكبة من الصحفيين الذين لم يناموا أسبوعا كاملا وهم يطاردون أخبار الحملات، ويكتبون ليل نهار ليصل صوت مكافحة السموم إلى الناس.
لكن عباقرة النقد عندنا لا يقرؤون الخبر كاملا، بل يلتقطون اسما واحدا ويحولونه إلى قميص عثمان، ثم يرفعون عقيرتهم،

“لماذا فتحي؟! وأين صاحبي فلان؟!”

في تلك الأيام كان هناك جيش من الصحفيين والإعلاميين، يهرولون خلف كل خبر، يحملون الكاميرا والدفتر والقلم، يعصرون الوقت ليخرجوا بسبق جديد.
ناهيكم عن محامين، وقضاة وعسكريين، وأمنيين، ورجال ونشطاء مدنيين.
أما أولئك الذين يصرخون اليوم “لماذا لم يكرم زعطان وفلتان؟” فغالبا كانوا وقتها يحتسون الشاهي العدني على ناصية مقهاية الشجرة، أو يتصفحون تعليقات الفيسبوك بحثا عن معركة مع أي جنوبي.
التكريم لم يكن مجاملة ولا صفقة سرية ولا من تحت الطاولة، بل كان رد جميل لمن عملوا بضمير، والأجمل من ذلك أن التكريم لا ينتقص من حق أحد، لكنه يذكرنا أن الأيادي التي تعمل تستحق أن تصافح، لا أن تصفع، لكننا شعب لا يجيد الاحتفاء بالنجاح إلا على شكل حفلة جلد علني. نجلس على مقاعد المتفرجين، نطالب بالتكريم ونحن لم نحضر المباراة أصلا.. أيها الغاضبون من تكريم الآخرين،حين كانت الأسماء تسطر في قائمة المكرمين، أين كنتم أنتم؟ وأين كان فلان صاحبي وصاحبك، وكلهم على عيني ورأسي؟
ربما كنتم منشغلين بتوزيع نصائحكم المجانية على فيسبوك، أو تنقيح جملكم الاعتراضية:

“لماذا فتحي؟!”

إذاً… مبروك لفتحي وكل من نال التكريم، وخالص التعازي لكل من ما زال يظن أن العالم سيدور حوله وحده.
الله المستعان

البرلمان، حين يراد له أن يبعث حيا

يبدو أن قدر هذا البلد التعيس أن يظل يعيش في موسم “إعادة التدوير السياسي”، وكأننا نعيش في مزرعة تجارب، لا دولة محترمة لها كرامة.
فها هو برلمان ما كان يسمى برلمان اليمن، يطل علينا من تحت التراب، يهز غبار القبر عن كتفيه، ويتنحنح ليعلن أنه عائد لممارسة دوره الرقابي.
والله لو كانت الرقابة كائنا حيا لما صدقتكم، ولو كانت الغيرة على الوطن تقاس بالمتر لوجدناكم على بعد ملايين المسافات منها.
الحقيقة أن المسألة ليست غيرة ولا حبا في الرقابة ولا في البلاد، بل لأن هناك أوراقا لا يجرؤ أحد على توقيعها إلا كيان يتنفس عبر قناع اسمه “الشرعية”، حتى وإن كان هذا الكيان ميتا سريريا منذ عشرين سنة.
أما الجنوب فهو في عرفهم مجرد مختبر مفتوح، جربوا برلمانا فيه، صفوا حسابات هنا وهناك، أشعلوا الأزمات الواحدة تلو الأخرى، عذبوا المواطن فيها لأن من فوضوه رفض أن يوقع ويبصم. ولأن آخر العلاج “الكي” جيء بالبركاني ومن معه من موتى. أهلا بك يا بركاني، ولكن قبل أن تضع قدمك على أول درج الطائرة، تذكر شيئا مهما، ألا وهو أن الطريق إلى عدن مليئة بالحفر، تلك الحفر التي حفرتها السياسة التي جاءت بك من تحت الرماد لتلعب الاعيبها في الجنوب.. عدن يا بركاني ليست أرضًا بلا ذاكرة، ولا ناسًا بلا موقف. إن جئت لتنفيذ الاعيب من يلوحون بك كعصا شرعية، فأعلم أن الجنوب تعب من الحفر، خاصة تلك التي تقود إلى مقابر جديدة.. فلتنزل يا بركاني إن شئت، لكن خذ معك معولا، ليس لتردم الحفر، بل لتكون مستعدّا حين تعثر قدمك أن تدفن في قبرك حيا.

يا رجلين شليني

يبدو أن مدين عفاش لم يكتف بأن يكون “مدينًا” لوالده بالاسم فقط، بل قرر أن يسدد فاتورة كاملة من البطولات الوهمية التي صاغها المزايدون حول “الزعيم” وهو يواجه الحوثيين كعنترة القرن الواحد والعشرين.
فجأة، يطل مدين عبر قناة العربية، لا ليبكي أباه، بل ليكسر قلوب المصفقين في المقيل، وليطفيء “ملاحم الفيسبوك” بنفس بارد، ويقول لهم:
“والدي مات وهو شارد، تماما كما يجري الخروف من الذئب”
أما المدهش في الحكاية، فليس الرصاص الذي انهال على الموكب المصفح، ولا الدبابات التي حاصرت الثنية، بل ذلك المشهد الذي يرويه مدين ببراءة قاتلة:
كان الزعيم، يركض بكتف مصابة، يبحث عن سيارة، عن باب، عن شجرة، عن حجر يختبئ خلفه، عن أي شيء، لعله يجد الأمان، لكن الأمان في اليمن كالتيار الكهربائي: يعلن عنه أكثر مما يرى، الذين صنعوا من مقتله ملحمة بطولية وتاريخية، كانوا يتحدثون عن “قائدٍ صنديد صمد حتى آخر طلقة”. فجاء مدين الطيب “نكب العفش” و “كب العشاء”، ونسف كل ذلك بكلمة واحدة:
“هربنا، وفحطنا”، هكذا، ببساطة قاتلة، وكأنك تسأل طفلا بريئا: أين الواجب المدرسي؟ فيرد ببساطة: سقط علي الدفتر بالبلاعة.
والأكثر كوميدية، أن رواية الحوثيين التي كانت تعتبر عند البعض كذبا دعائيا، صارت اليوم حقيقة تاريخية مختومة بشهادة نجل القتيل نفسه. الحوثي لم يحتج إلى مؤتمر صحفي بعد هذه المقابلة، فقط جلس في الكهف يصفق بيد واحدة ويقول:
“شكرا مدين، وفّرت علينا تعب التنظير.”
ثم تأتي الطامة:
أين طارق؟ أين يحيى؟ أين عمار؟ أين كل أولئك الذين كانوا يقسمون أن “الزعيم” لن يترك وحيدا؟.
يجيب مدين، كأنه يوزع كروت غياب في مدرسة خاصة:
“كانوا مشغولين، أو ربما ضاعوا في الزحمة”، هكذا بكل بساطة، لم يبق مع الزعيم سوى عدد أصابع اليد من المرافقين، وبقية العائلة كانت تعد منشورا جديدا على الفيسبوك بعنوان، “سنبقى أوفياء لدم الشهيد”، ولأن السخرية في اليمن لا تحتاج إلى عناء، فإن مدين بحديثه ذاك خدم الحوثي أكثر مما خدم الحوثي نفسه.
حتى بعض أنصار عفاش الذين كانوا يقسمون أن الزعيم في الثلاجة وسيعود يوما ما ليقودهم، خرجوا من المقيل كالمصاريع يصرخون، “الله ينتقم منك يا مدين بحق هذا اليوم الفضيل”ويبقى السؤال الأهم:
هل كان مدين ساذجا إلى درجة أنه كشف الحقيقة؟ أم أن الحقيقة نفسها كانت محشورة في صدره فقرر أن يتقيأها على الهواء مباشرة؟
مهما كانت الإجابة، فقد نجح مدين في شيء واحد فقط:
أن يحول موت أبيه إلى درس حي في مادة التربية الوطنية:
“حتى الأباطرة يمكن أن يموتوا ركضا، وأن تتحول القلاع إلى كمائن، وأن تصبح الثلاجات أصدق من الخطب.”
هكذا ببساطة، إنتهت الملحمة إلى زوال، وسقطت آخر كذبة، وبقي المشهد الأخير محفورا في ذاكرة اليمنيين أن عفاش، الرجل الذي حكم نصف قرن، يسقط وهو شارد كالأرنب، ولا يجد سوى “الحوثي” يقف في طريقه ليقول له: تعال ارتاح لك هنا بالثلاجة يا مروض الحنشان.

زر الذهاب إلى الأعلى