من التهديد إلى الصمت.. الحوثيون بين خطاب المواجهة ورهبة الضربات الأمريكية

النقابي الجنوبي/خاص
في 13 يونيو 2025، شهدت منطقة الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق، مع تنفيذ إسرائيل ضربات جوية على أهداف حساسة داخل إيران، تبعتها بعد 10 أيام ثلاث ضربات أمريكية دقيقة طالت منشآت نووية إيرانية. قبل ذلك، صعدت جماعة الحوثيين من نبرتها، وهدّدت بالرد المباشر على أي تدخل أمريكي، ملوّحة بضرب البوارج والسفن في البحر الأحمر. لكن حين وقعت الضربات الأمريكية فعليًا، خيّم الصمت. لم تُطلق الجماعة رصاصة، ولم تُنفذ وعدًا واحدًا.
ما الذي جعل الجماعة التي ترفع شعار المواجهة الدائمة تتراجع فجأة؟ الإجابة لا تتعلق بتوقيت سياسي، ولا بتوازنات داخلية، بل بخوف عسكري صريح من عودة الضربات الأمريكية إلى عمق مناطق سيطرتها.
الضربة التي لم تُنسَ: ذاكرة ما قبل مايو 2025 تفرض سطوتها
الذاكرة التي حكمت قرار الحوثيين لم تكن نظرية، بل واقعية وموثقة. من منتصف مارس إلى مايو 2025، نفذت الولايات المتحدة سلسلة غارات استهدفت مراكز حيوية للجماعة في صنعاء وصعدة والحديدة. الغارات لم تكن رمزية، بل دمّرت مخازن صواريخ، وقتلت قيادات ميدانية، وخلخلت أنظمة الاتصال والتنسيق داخل البنية العسكرية الحوثية.
تلك الشهرين كانت كافية لفرض “تفاهم غير معلن” قضى بتحييد واشنطن عن ساحة المواجهة، بوساطة عُمانية، مقابل تهدئة حوثية واضحة. لذا، عندما عادت الطائرات الأمريكية إلى السماء في يونيو، أعادت معها الخوف القديم. وهكذا، حين جاء موعد التنفيذ، اختارت الجماعة الصمت خشية من ثمن مكلف اختبرته عن قرب.
التهديد كساتر نفسي: تفريغ الضغط لا إعلان فعل
الخطاب الحوثي — رغم صلابته الظاهرية — لم يكن سوى صمام تفريغ نفسي للشارع الداخلي، وتأكيد وهمي على أن الجماعة لا تزال في قلب “محور المقاومة الإيراني”. فعبد الملك الحوثي وصف التصعيد الأسرائيلي ضد إيران بأنه “معركة الأمة”، وقياداته هدّدت برد غير مسبوق إذا ما تدخلت واشنطن، والمتحدث العسكري أعلن الاستعداد لاستهداف السفن الأمريكية.
لكن المشهد انقلب تمامًا بعد تنفيذ الضربة الأمريكية، وانكشف أن كل ما قيل لم يكن استعدادًا لمعركة، بل محاولة لخلق غطاء دعائي في حالة عجز فعلي. الجماعة لم تكن تملك رفاهية اختبار الرد الأمريكي مجددًا، ولا تقوى على تحمّل ضربة ثانية تُربك موازينها في العمق.
القرار الميداني رهين الخوف لا الإذن
بعكس ما يظنه البعض، فإن الحوثيين لم يتراجعوا لانتظار “إذن من طهران”، بل لأنهم يعرفون حدود الردع الأمريكي جيدًا. التجربة كانت مريرة، والضربات الأخيرة أعادت التذكير بمدى هشاشة مواقعهم أمام الطيران الأمريكي.
في هذا السياق، جاء تصريح محمد البخيتي بأن “إيران لم تطلب منهم تنفيذ عمليات عسكرية” ليس تبريرًا تبعيًا، بل محاولة لصياغة غطاء سياسي لخوف ميداني عميق. فقرار اللا ردّ لم يُصنع في طهران، بل في غرف عمليات الحوثيين التي تدرك أن أي مغامرة جديدة ستفتح أبواب الجحيم الأمريكي من جديد.
العقوبات تحاصر اليد.. والخوف يشلّ الزناد
في موازاة التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران بالتحديد في 20 يونيو، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية حزمة عقوبات قاسية على الجماعة، استهدفت شبكات التمويل والتهريب والغطاء التجاري. هذه العقوبات لم تؤثر على نبرة التهديد، لكنها حاصرت أدوات التنفيذ وجعلت أي قرار عسكري مغامرة خاسرة.
الجماعة، التي تعاني أصلًا من أزمة اقتصادية وتراجع دعم خارجي، لم تكن قادرة على الجمع بين خطاب الحرب وتحمل تبعاتها. فالسلاح الموجود، في زمن الخوف، لا يُستخدم، والمواقف النارية تُلقى في الهواء طالما أن السماء مليئة بطائرات الرصد والاستهداف.
الخاتمة: الصمت المدروس أخطر من الضجيج المرتبك
ما حدث في 23 يونيو 2025 لم يكن تناقضًا، بل نقطة انكشاف استراتيجية. جماعة الحوثي لم تتراجع لأنها انتظرت التعليمات، بل لأنها خافت من الضربة التالية. لم يكن القرار قرار تسوية، بل قرار بقاء. لقد أصبحت الغارات الأمريكية هي الجدار الصلب الذي لا تجرؤ الجماعة على ارتطامه مجددًا.
إنها لحظة إدراك أن التهديد لا يساوي الفعل، وأن الخطاب، مهما ارتفع، لا يمكن أن يحل محل القدرة حين يُصبح القرار محفوفًا بكلفة الردع. ومع كل صمت جديد، تتأكد حقيقة أن الجماعة، وإن هددت العالم، فإنها تخشاه حين يُخرج طائراته.