اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

أ/ صالح القطوي يقدم قراءة تحليلية في أشعار إيمان الخواجة( أم أحمد الضالعي)

كتب: أ. صالح القطوي


لم يحظ شعر المرأة باهتمام الباحثن قديما، لأسباب مختلفة، منها غياب التدوين لشعرها، وطبيعة المجتمع، والحياة، ودرجة حضور المرأة فيها، ولا يخفى ميولنا نحو الأدب بعامة والشعر منه بوجه أخص، لذلك أقبلت على قراءته منذ زمن بعيد وفي نفسي شوق لدراسته، لكن لم تسنح لنا الفرص للوقوف على الشعر النسوي، وبقت جذوة الشوق مع إطلالة شاعرات في عصرنا الحديث، ولطالما كنت أهدف إلى تشجيع موهبة المرأة المبدعة بوصفها شريكة إبداع وفن وأدب.
لا شك أن المرأة المعاصرة لقت من العوامل المتاحة والمشجعة ما لم تلقه شاعرات في عصور سابقة، تعلمت، فكتبت شعرا ونثرا، وشاركت في مجالات مختلفة.
وفي هذه السطور نسلط الضوء على شاعرة جنوبية سطع نجمها في سنوات النضال السلمي والثوري الجنوبي، كمنوذج لشاعرات اعتنقن الشعر العامي “الشعبي” منهجاً وكتابة.

والبداية من التعريف بها:
الشاعرة إيمان علي صالح الخواجة، المكناة بأم أحمد الضالعي، من مواليد ردفان، حبيل الريدة وادي الخصيب، مديرية حالمين 1980م، و هي أستاذة ومربية فاضلة، تخرجت من معهد دار المعلمين بردفان نهاية التسعينات تحديداً عام 1999م.
وترعرعت على يد والدها الأستاذ (علي صالح الخواجة ذو الأصول اللحجية أسهم في تأسيس التعليم الحكومي في منطقة حالمين منذ 1968م، واستقر فيها حتى وفاته في العاشر من شهر يناير 2024م في مستشفى ابن خلدون، الحوطة لحج، رحمه الله تعالى.
الخواجة معلم وموسيقي (ينحدر من أسرة موسيقية منهم الفنان والعازف وكان أيضا يعتبر الموسيقى مادة أضافها كمنهج لتعليم طلابه كان من المعلمين العصاميين المعاصرين يعمل بإخلاص وجهد ويقطع المسافات البعيدة ليعطي الطلاب دروسا تحت ظل الأشجار فلم تكن حينها مدارس ويتنقل من قرية لأخرى رغم اختلاف الطبيعة الجغرافية بين الريف والمدينة والغربة عن الأهل، ولكن إخلاصه جعل منه إنسان يبذل الجهود لنشر الرسالة السامية وإيقاد شعلة العلم المنيرة.

نعود للحديث عن الشاعرة موضوع البحث، فبرغم تعرضها لحادث طلق ناري راجع في أثناء حرب 2015م بمنطقة الضالع، إلا أنها كانت مؤمنة ذا إرادة قوية قهرت تلك الإعاقة وتغلبت عليها بالصبر والأمل والعزيمة، وقد اعتنقت مذهب النضال؛ لإيصال صوتها، ورسالتها، متجاوزة إعاقتها وقسوة الحياة بما حباها الله من إبداع فني وقيم خلقية.
يقول عنها دكتور عبده الدباني ” لقد سارت على نهج الشعر الشعبي “العامي” في حالمين من حيث الأوزان والقوافي والموضوعات، مضافا إليه شعور المرأة وخصوصيتها وعاطفتها المفرطة”، ولم يكتف بذلك بل عمل على دعمها وتشجيعها بكل ما أوتي من حكمة.
وعند هذه الطرح سنتوقف مفصلين القول في اهتمامات شعرها الوطني، والاجتماعي والذاتي، والإنساني، وما يتعلق بمعاناتها الخاصة وبمجتمعها انطلاقا من واقعها المعاش، وعن هذا الواقع تقول:

وفي هذا السطور سنحاول تسليط الضوء على إنتاجها الشعري، من خلال تناول بعض تلك الأغراض الشعرية والخصائص الفنية لشعرها، وفقا للموضوعات الآتية :
1- اللغة .
2- بناء القصيدة .
3- الصورة الشعرية .
4- الخصائص الفنية العامة (الأوزان والقافية)، ومتفرقات أخرى.
فمن حيث اللغة نجد الشاعرة تستخدم لغة بسيطة وغير معقدة، لتعبر بها عن حال لسانها بعيدا عن أي تكلف، لا في اختيار ألفاظها، ولا في انتقاء معانيها، فالقصيدة وليدة اللحظة ومخزون الذات، ولذلك نلحظ لغة الحديث اليومي، وتراكيب الخطاب الثوري والسياسي والصحفي:
عاشت الأزارق أبيه حره عرين الخوارق
أصل البطولات للأعداء سوت إباده

لغة الشاعرة لم تقف عند النقل للأحداث المعاصرة والمعاشة عن قرب في حياتها، بل وسعتها لتمتد إلى تطعيمها بما يشبه التقليد المتعارف عليه في ختم القصيدة بالدعاء وبالتسليم على النبي وإما بالمواساة لمرثيين، تشد به سمع المتلقي الشعبوي، مثل:
أصلي وأسلم على من بالهدى نور
محمد المصطفى وصحبته والآل
ومن عجائب اللغة احتفاؤها بالمفارقات المكانية، لتدل على حسم المواقف، وفقا لضمائر الخطاب، والمخاطب فيها، تقول:
حسمنا أمرنا عشره على عشره
لكم صنعا ولنا بندر عدن والخور
اللافت للنظر في لغة الشعر أن الشاعر يكون صياد فرص، وهذا ما قامت به لغة أم أحمد، لترفع من شعبيتها ونضالها الثوري وفقا للمرحلة ولواقعها المعاش، فكتبت قصائد شعر لكبار المعترك السياسي أمثال الزبيدي وشايع، ورثت شهداء الجنوب والضالع، والأزارق بوجه أخص، رثت “أبو الشهداء الشوبجي وأبناءه”، وتلقف هذه القصائد الجمهور (الشعبوي) حينها، وبادر إلى نشرها، وتلحينها، وغناها المطربون مثل الفنان سالم البيحاني، الذي غنى لها :
حسنش طبيعي ومايحتاج للمكياج
سيبش من البورده والكحل والحمره
ومنهم من لحن لها كأصحاب الدان والإلقاء مثل قحطان الكاش والمحضار، فضلا عن شبكات التواصل الاجتماعي المتاحة للنشر والتلقي، بما يسهم في اكتشافها وتشجيعها.
وكلها كانت عوامل محفزة للكتابة، ومساعدة للتصوير والشهرة بلغتها الحية، ولم تحصرها في سياق فني معين، يعتمد الفصحى ويلتزم بأوزان العروض وأحكامه، بل كانت مزيجا من هذا وذاك.

وليس غريبا عليها جرأة النقد والطرح، وتوظيف لهجة الريف، حينما يتعلق الأمر بمخاطبة المرأة، لاكتشاف جمالها الطبيعي بعيدا عن بهرجات المكاييج:
حسنش طبيعي وما يحتاج للمكياج
سيبش من البورده والكحل والحمره
ويبدو أن هذا الطرح لاقى استحسان المتلقي وأهل الطرب والفن، لسببن الأول الشاعرية وقدرتها على نقد الواقع، والآخر عمومية التجربة بعيدا عن أي خصوصية.

وأما بناء القصيدة وهو تركيبها الشكلي والمحتوى، فيشمل:
البيت الشعري: وهو الوحدة الأساسية في القصيدة الشعبية، ويتألف من سطرين بقافية مستقلة لكل شطر، وطريقة ترتيب الأبيات في القصيدة يكون في ثنائيات متتالية. يبرز النفس الشعري الدال على المحتوى الممتد في سياق السطر الواحد، كتعويض لنفس القصيدة وامتداد مساحته الأفقية، مثلما يتبين في الأبيات السابقة.
وقد يكون البيت بين شطر تام، وآخر مجزوء بتفعيلتين، مثل قولها في قصيدة “يا لحج الوفاء والخضيرة” :
لحــج “القمنـدان” فيهـا كــم تغــزّل خياله
يا كم قوافي نظم

ومن سياق القصائد التي رصدناها يتبين إلتزامها بوحدة البيت الشعري المتعارف عليه في الوسط الشعبي، وهي غالبا ما تبدأ بجمل خبرية مقارنة بالمطالع الإنشائية، مثل وقولها :
نجدد العهد في ذكراك يا اكتوبر
اكتوبر المجد ياشامخ شموخ جبال
وهذا ربما يتماشى مع طبيعة الأنثى التي تميل إلى هذه الأساليب. ويؤكد هذا الأسلوب الخبري عناوين قصائدها التي وضعتها كجمل مفتاحية: (مكنون الخواطر، واقع حال، غيث المعاني، حسنش حلو، جيت لك ضيف، ثورة المجد الأكتوبري، نبض الأحاسيس)، وكلها تخدم سياق الغرض والمحتوى الذي وضعت لأجله بأسلوب خبري محض.
نفسها الشعري جاء مستحسنا ومقبولا ، فهو لا يزيد عن 10- 20 بيتا، ولا يقل عن السبعة الأبيات، وغالبا ما يكون بمعدل متوسط بين خانة العشرات. إذ جمعنا لها ما يقرب من عشرين قصيدة بمعدل تراكمي يقدر ب-(200) بيت شعري. ولها كذلك مقطوعات تجاري بها الشعراء، وتعبر من مواقفها وتعليقاتها ولتؤكد حضورها في المنتديات الإلكترونية، نحو قولها:
ايش التغير والأمور الحاصله
ع المنتدى آشوفكم تتصارعون
بارسل لكم مني رسالة عاجلة
كونوا على درب الوفا متفاهمون

وهذا يعني أنها ستنظم من الشعر ما لم تنظمه شاعرات الأندلس مجتمعات (البالغ عددهن 45 شاعرة) بحسب ما تم جمعه من أشعارهن، بما قدر ب-(325) بيتا شعريا وموشحة بحسب إحدى الدراسات الحديثة لشاعرات الأندلس.

وللهاجوس وقع فلا تكتمل الصورة الشعرية إلا باكتمال أدوات اللغة من جانب ومن جانب آخر قدرة الشاعر على الرسم بالكلمات وملكات الخيال وامتلاك الهواجس، وهو ما عبرت عنه الشاعرة.:
من قافية الأشعار هاجوسي نظم
*كلمات تتألق درر أوزانها

وحينما يصرح الشاعر بعجز حروفه وعدم قدرته عن التعبير:
عجز حرفي وهاجوسي عن التعبير كي أرثيك
أنا الموجوع في بعدك تمزق قلبي الأحزان

فهذا لا يعني الحقيقة المطلقة، ولكن ليؤكد عظم الحدث الذي حل به، فراق أحب وأعز الناس إليه، لحظة ضعف وانكسار إزاء الرحيل النبيل والبعد والغياب الذي لا رجعة فيه.
أذن، إزاء مشهد الموت يقف الشاعر عاجزا عن فهم اللحظة لحظة الموت ودنو الأجل، ليفيق منها إلى إفراغ كل ما فيه من وجد و وعد بالرثاء والكتابة :
أنا شاعر وأنت القاف في مجمل دواويني
بحور الشعر مفردها قوافي مؤلمة واوزان

ولكي يخفف من هول الصدمة يلوذ بالتسليم للقدر، ليترجم معاني الهم والحسرة وتراتيل الوفاء شعرا ووداعا ودعاء. لكن هذه الهواجس والقوافي لا تمتلك لأحد من الشعراء، فلا تقف عند غرض دون آخر، وإنما هي ترجمان اللحظة، والمشاهد التي يمر بها الإنسان فتلتقطها عدسة إلهامه وتحولها إلى أحاسيس وصور تتفاوت بين نقل الواقع ورسم الخيال، فقد تكون الصورة مزيحا من الشعور بآلام الحزن وسفينة هاجها تفكير الإنسان بما يحدث فيه من هواجس، فتيض دموعه لتضطرب موانئ الأحزان بمباني القاف والوجدان، حزنا وألما على من رحلوا:
شعــور الحــزن فـي.قلبـي فــوق الـوصف مقياسه
وحرف القــــاف كلمـــاته يتيمه من معانيـها
وفكـري صد تفكيري ودق الحــزن أجراسه
سفيـنة هاجها الأعصار تـاهت عن موانــيها
رثـائي دمعي الشنان فوق اسطور كراسه
كتبت أبيـــات والأوزان تـاهت مـن مبانيها

وأما الخصائص الفنية العامة لشعرها، فتتعلق بكل ما سبق ذكره، حيث اللغة الاعتيادية التي تخلصت من روابط لجهة الريف كتابة ونطقا وانتقت كلماتها بإتقان بما يجعلها قريبة من ألفاظ الفصحى، لغة الإسكان، انطلاقا من قاعدة “سكن تسلم”، وهذه طبيعة العامية.

وأما من حيث الأوزان والقافية فقد تبين قدرتها على النظم بأكثر من بحر شعري شعبي وعامي معظمها تقترب من أجزاء التفاعيل التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي باستثناء تفاعيل القوافي التي تقع في شطري البيت فقد جاءت مخالفة لما وضعه الخليل حتى ضمن علل الزيادة الثلاث في بعض البحور اامزوءة.
وهنا نؤكد عدم خضوع الشعر العامي بعامة والشعبي بوجه أخص لأحكام الخليل ومصطلحاته وإنما للاستعانة بها من باب تقريب تلك الاستعمالات التي جاء بها شعراء العامية لنقل تجاربهم، وعلى هذا الأساس رصدنا أكثر من خمسة أوزان استخدمتها الشاعرة، منها ما جاء على أجزاء مقلوب المديد (فاعلن، فاعلاتن)، ومنها ما جاء على أجزاء الوافر والبسيط والرمل والرجز والسريع. فتبين سر اهتمامها بهذه الأوزان المتمثل بالذوق الشعبي العام وطبيعة المنطقة، الحياة وأزمات الوطن الجريح.

زر الذهاب إلى الأعلى