اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

حين تحدث البيض … خارطة لم يوقعها أحد”

 

بقلم / محمد علي رشيد النعماني

في مساءٍ هادئ، كانت المساحة الصوتية على منصة إكس تموج بترقّب لافت، وقد اتجهت آذان الحاضرين إلى عمرو البيض لحظة شرع في الحديث، كأنهم يستعدّون لالتقاط خيطٍ سياسي ينتظر الجميع أن يُقال. بدا وكأنه يفتح نافذة على كواليس السياسة التي لا يراها أحد. قال بثقة إن المجلس الانتقالي الجنوبي لم يطّلع على خارطة الطريق للسلام، ولم يوافق عليها، وإن الطرف الوحيد المتمسك بها هم الحوثيون، وكأنهم يحاولون إنعاش وثيقة ماتت قبل أن تُولد. لم تكن عباراته مجرد ردّ على سؤال عابر ، كانت أقرب إلى رواية تكشف خيوط اللعبة ، لعبة تغيّرت ملامحها منذ السابع من أكتوبر حين غيّرت الأحداث الإقليمية مسار كل شيء. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد خارطة الطريق سوى ورقة مجمدة في درج دبلوماسي مغلق، بينما القوى الدولية توزّع اهتمامها بين غزة والبحر الأحمر والممرات التي أصبحت أخطر من ذي قبل. كان البيض يتحدث وكأنه يروي حكاية بلدٍ لم يعد ممكناً اختصاره في اتفاقات صيغت على عجل، ولا في أوراق حلّ يتوهّم البعض أنها قابلة للتطبيق. أوضح أنّ الخارطة لم تعد تمثل الواقع ولا تعكس التحوّل الذي حدث حين انتقل الملف اليمني من صراع داخلي إلى جزء من معادلة إقليمية ودولية أكبر بكثير، فالممرات البحرية لم تعد هامشاً، والحضور الدولي في المنطقة لم يعد عابراً، والحوثيون لم يعودوا طرفاً محلياً فقط، بل عقدة أمنية تتعامل معها القوى الكبرى بجدية تختلف عن السنوات السابقة. ومع ذلك، يحاول الحوثي التمسك بالخريطة، ليس لأنها مفتاح سلام، بل لأنها تمنحه اعترافاً سياسياً لم ينله بالوسائل التقليدية. كأنهم يضعون وثيقة قديمة على الطاولة ويقولون للجميع هذا هو الحل، خذوه كما هو أو ارحلوا. وفي مقابل هذا المشهد، كان البيض يقدم صورة مغايرة للجنوب، صورة قوة تعرف وزنها وتفهم اللحظة ولا تقبل أن تُفرض عليها تسويات مجتزأة. بدا وكأنه يروي قصة صعود طرف أصبح يمسك بمفاتيح البحر والموانئ والمنافذ، طرف يعرف أن موقعه الجيوسياسي لم يعد تفصيلاً في السرد، بل محوراً لا يمكن تجاوزه. لم يقل ذلك بشكل مباشر، لكنه تركه يتسرب من بين السطور، مثل رسالة مقصودة لمن يفهم ، الجنوب اليوم ليس رقماً ثانوياً في المعادلة. كانت حكايته أشبه برواية تفضح ابتزاز الحوثيين من جهة، وتكشف غياب الواقعية في الخطط الأممية من جهة أخرى. رواية تقول إن السلام الحقيقي لا يولد من وثائق جاهزة، بل من إدراك وزن الأطراف وقدرتها على الفعل على الأرض، وإن خارطة الطريق التي يتحدث عنها الحوثيون ليست سوى محاولة لإعادة تدوير لحظة سياسية انتهت إلى غير رجعة. ومع استمرار كلامه، كان واضحاً أنّ المجلس الانتقالي يقدّم نفسه كقوة مسؤولة، لا ترفض السلام، بل ترفض أن تُقاد إليه مُغمضة العينين. هو لا يقول “لا”، بل يقول “لن نوقّع على شيء لم نشارك في صياغته”، وهذا بحد ذاته إعادة تعريف لطبيعة الشراكة في أي مسار سياسي قادم. وفي نهاية الحكاية، بدا المشهد اليمني كما لو أنه يتشكل من جديد؛ خارطة قديمة انتهت صلاحيتها، وواقع جديد يفرض نفسه بقوة، وجنوب صاعد يحجز مكانه بين اللاعبين المؤثرين. وفي كل ذلك، جاءت رواية البيض لا لتقدم موقفاً سياسياً فحسب، بل لتقول للقارئ والمستمع إن مستقبل اليمن لن يُكتب إلا بما يتناسب مع الحقائق على الأرض، وإن الأطراف التي تحاول فرض وثائق من الماضي إنما تهرب من الاعتراف بأن الزمن تغيّر وأن الجنوب تغيّر أيضاً ..

محمد علي رشيد النعماني

زر الذهاب إلى الأعلى