محمد الديني : الخيارات السياسية بين الواجب الأخلاقي والتكلفة السياسية: معضلة القطار نموذجاً للمشهد الجنوبي والشرعية اليمنية

محمد الديني : الخيارات السياسية بين الواجب الأخلاقي والتكلفة السياسية: معضلة القطار نموذجاً للمشهد الجنوبي والشرعية اليمنية
محمد الديني
في ظل تشعّب الأزمات التي تضرب اليمن عامة، والجنوب بشكل خاص، يجد المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية نفسيهما أمام خيارات سياسية لا تقل صعوبة عن ما تعرف فلسفيًا بـ”معضلة القطار”. وهي المعضلة التي تجسّد جوهر الصراع بين التدخل المحفوف بالتبعات والمسؤولية الأخلاقية من جهة، والامتناع الذي قد يجنّب الفاعل اللوم المباشر لكنه يترك الواقع ينهار أمام عينيه.
أولًا: المجلس الانتقالي الجنوبي بين خيار الإنقاذ وتبعات القرار
يقف المجلس الانتقالي أمام مسار سياسي واقتصادي وأمني متسارع نحو التعقيد: من انهيار العملة، وتردي الخدمات، إلى تنامي التحديات الأمنية، والضغط الشعبي المتزايد. كل هذه التحديات تمثّل “القطار المسرع” الذي يهدد السلم الاجتماعي الجنوبي. أمام المجلس خياران:
الاستمرار في نهج الصمت أو الإدارة المحدودة للأزمات، مما يعني ترك القطار في مساره ليدهس ثقة المواطن ويهدر المكتسبات الوطنية.
أو اتخاذ قرارات حاسمة ومباشرة، قد تكون مكلفة سياسيًا وشعبيًا، كالدعوة لإعادة هيكلة شاملة في أجهزة السلطة المحلية، أو حتى إعادة تقييم التحالفات الإقليمية والداخلية.
لكن كما في معضلة القطار، لا يكفي تحويل السكة دون معرفة دقيقة بسرعة القطار، وهي هنا ترمز إلى مآلات القرار السياسي، وردود الفعل المحلية والدولية، وتبعات أي مسار جديد. فالقرار الذي يُتخذ دون حساب دقيق، قد يؤدي إلى نتائج أكثر كارثية.
ثانيًا: الحكومة الشرعية وسؤال الغياب أو الحضور الفاعل
الحكومة الشرعية، من جهتها، تبدو في موقع “من يقف على الرصيف” مترددةً في التحرك، حيث تفاقم الأزمات في المناطق الخاضعة لسيطرتها أو شراكتها مع أطراف أخرى. عليها أن تختار بين:
المبادرة بقرارات جذرية لإعادة الثقة، كإصلاح مؤسسات الدولة ومكافحة الفساد وتفعيل دور المحافظين والوزارات، حتى لو أدّى ذلك إلى صدامات داخلية مع قوى نافذة.
أو الاستمرار في سياسة الصمت أو التصريحات الإعلامية الشكلية، مما يعني ترك القطار يدهس ما تبقى من شرعية دستورية وأخلاقية.
لكن الامتناع عن اتخاذ القرار – كما تقول المعضلة – ليس براءة، بل تواطؤ بالصمت، خاصة حين تكون الأرواح والمصائر على المحك.
ثالثًا: ربط فلسفي — بين السياسة والمعضلة الأخلاقية
معضلة القطار ليست فقط تمرينًا نظريًا في الأخلاق، بل هي تمثيل حيّ لتجربة السياسة في أزمنة الأزمات. فالقادة لا يملكون ترف “القرار الصائب بلا خسائر”، بل يواجهون دومًا خيارات مكلفة، حيث كل قرار ينطوي على تضحية. غير أن ما يميّز القادة الحقيقيين هو الجرأة على اتخاذ القرار الأصعب، عندما تكون المصلحة العامة – وإن تأخرت ثمارها – هي الهدف.
في هذا السياق، فإن السكوت أو الإرجاء أو التردد، لا يُعفي من المسؤولية، بل يؤسس لمشهد أعنف لاحقًا. تمامًا كما أن عدم تحويل مسار القطار لا يعني البراءة من مقتل الخمسة، بل ربما يزيد من العبء الأخلاقي لمن امتلك القدرة على التدخل ولم يفعل.
خاتمة:
السياسة ليست ملعبًا للمثالية ولا مكانًا للراحة النفسية، بل هي فضاء الصراع بين ما هو ضروري وما هو ممكن. وعلى المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية أن يدركا أن الخيارات السهلة انتهت، وأن القادم يتطلب قرارات مؤلمة، لكن مؤسِّسة لمستقبلٍ أكثر استقرارًا.
وإن كنا جميعًا في موقع المتفرج الآن، فإن التاريخ – كما في معضلة القطار – لا يحاسب النوايا، بل يحاسب النتائج.
فهل نملك الشجاعة لتغيير المسار، وتحمل كلفة القرار؟
محمد الديني