اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

من الشفاهية إلى الكتابة.. سقطرى تُحيي لغتها التاريخية بقرار جريء يُعيد رسم ثقافتها الفريدة

النقابي الجنوبي/ خاص/ هشام صويلح

في خطوة وُصفت بالتاريخية، أصدر محافظ أرخبيل سقطرى، المهندس رأفت علي إبراهيم الثقلي، القرار رقم (9) لسنة 2025م بتاريخ 21 أغسطس، القاضي باعتماد مخرجات ورشة “ألف باء” الخاصة بدراسة أصوات اللغة السقطرية والحروف المقترحة لكتابتها. لا يُعد هذا القرار مجرد إجراء إداري روتيني، بل يُمثّل إعلانًا رسميًا بدخول اللغة السقطرية، التي عاشت قرونًا شفاهية بلا نظام كتابة، عهدًا جديدًا من التدوين والاعتراف المؤسسي والأكاديمي.

تكليفات متعددة وجهود مؤسسية

القرار ألزم مكاتب التربية والتعليم والثقافة والإعلام والتعليم الفني، إلى جانب جامعة سقطرى والمعاهد العليا، بتنفيذ مهام متكاملة تبدأ من إعداد المناهج التعليمية وإدماج اللغة في البرامج التدريبية، وصولًا إلى إنتاج مواد إعلامية للتوعية المجتمعية. كما دعا الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني إلى المساهمة الفاعلة في الأنشطة الثقافية والشبابية.

ولضمان التنفيذ الفعّال، تم تشكيل لجنة متابعة برئاسة مدير مكتب الثقافة، وعضوية ممثلين عن التربية والتعليم والإعلام والتعليم الفني والجامعة والجمعيات الأهلية، إضافة إلى مركز اللغة السقطرية للدراسات والبحوث الذي عُيّن مقرراً للجنة. وقد كُلّفت هذه اللجنة بوضع خطة تنفيذية مرحلية خلال ستة أشهر، ورفع تقارير دورية كل ثلاثة أشهر إلى المحافظ لمتابعة التقدّم.

لغة عريقة مهددة بالزوال

القرار أعاد تسليط الضوء على واحدة من أقدم اللغات السامية الحية. اللغة السقطرية، التي يتحدث بها عشرات الآلاف من سكان الأرخبيل، تنتمي إلى فروع “اللغات الجنوبية العربية”، وتتميّز بخصائص صوتية ونحوية فريدة. ورغم غناها بالمفردات المرتبطة بالبيئة المحلية، مثل أسماء النباتات والكائنات البحرية، فإنها تواجه خطر الاندثار كما صنفتها منظمة اليونسكو، نتيجة انحسار استخدامها في الأجيال الجديدة وتراجعها أمام هيمنة اللغة العربية في التعليم والإدارة.

تُقدّر أرقام غير رسمية عدد المتحدثين بالسقطرية بين 50 و110 ألف شخص، معظمهم في جزيرة سقطرى وجزرها المجاورة مثل عبد الكوري وسمحة. لكن ما يثير القلق هو أن الأطفال لم يعودوا يتقنون العد بالسقطرية، وأن كثيرًا من الشباب يكتفون باستخدام العربية في حياتهم اليومية. هذا التحوّل يهدد بانقطاع السلسلة بين الأجيال، ما قد يؤدي إلى اندثار تدريجي للغة.

رحلة من الشفاهية إلى التدوين

تاريخيًا، ظلت اللغة السقطرية حبيسة الشفاهية حتى لفتت أنظار الباحثين الغربيين في القرن التاسع عشر. ففي عام 1835، جمع الرحالة البريطاني ويلستد أول قائمة مفردات سقطرية، ممهّدًا لسلسلة من الدراسات الدولية والمحلية لتوثيق نصوصها الشفوية.

ومع ذلك، ظل التحدي الأكبر هو غياب نظام كتابة موحد. تراوحت المقترحات بين تعديل الأبجدية العربية أو استخدام حروف لاتينية معدلة، دون أن يُعتمد أي منها رسميًا. وفي السنوات الأخيرة، برزت مبادرات دولية بارزة، أبرزها ورشة عمل نظمتها اليونسكو عام 2024 في حضرموت، لتصميم أبجدية دقيقة تمثّل جميع أصوات اللهجة السقطرية. واليوم، يأتي القرار في سقطرى ليمنح هذه الجهود إطارًا مؤسسيًا رسميًا لأول مرة.

شهادات المختصين

يرى المحافظ رأفت الثقلي أن اعتماد الحروف المقترحة “خطوة تاريخية لحماية اللغة وضمان انتقالها إلى الأجيال القادمة”، مشددًا على أن هذه الخطوة ستعزز حضور اللغة في التعليم والثقافة والإعلام.

من جهتهم، اعتبر مختصون لغويون أن القرار يُعدّ محطة فارقة، لأنه يضع اللغة السقطرية على مسار مؤسساتي رسمي، بعد عقود من بقائها أسيرة الأبحاث الأكاديمية أو المبادرات الفردية. الباحث الروسي فيتالي ناومكين وزملاؤه، الذين نشروا نصوصًا سقطرية مترجمة على مدى عقود، طالما دعوا إلى إدخال اللغة في النظام التعليمي كوسيلة وحيدة لإنقاذها من الاندثار.

بين التحديات والآمال

لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. فاللغة السقطرية تعاني من تراجع ملحوظ في عدد مستخدميها بين الأجيال الشابة، ومن عزلة تقنية وثقافية زادت بفعل سياسات التعليم الموحدة التي تفرض العربية كلغة وحيدة في المدارس. كما أن غياب المواد المكتوبة والمناهج يُعدّ عائقًا كبيرًا أمام إدخالها في النظام التعليمي، وهو تحدٍ يتطلب موارد مالية، وخبرات أكاديمية، وتدريبًا متخصصًا للمعلمين المحليين.

ورغم هذه التحديات، فإن القرار الأخير يفتح نافذة أمل واسعة. إذ يرى خبراء أن إدماج اللغة في المناهج وتوثيقها أكاديميًا قد يحوّلها من لغة مهددة إلى موروث ثقافي محمي، تمامًا كما حدث مع لغات أخرى استطاعت أن تحافظ على نفسها عبر التدوين والاعتراف الرسمي.

الهوية الثقافية

أهمية القرار لا تقتصر على البعد اللغوي فحسب، بل تتجاوز إلى مسألة الهوية الوطنية والسيادة الثقافية. فسقطرى، بجغرافيتها المعزولة وموروثها الثقافي الفريد، طالما شكّلت فسيفساء لغوية وحضارية. ومع موجات العولمة وتحديات الاستلاب الثقافي، يُقرأ اعتماد اللغة السقطرية كرسالة مفادها أن للجزيرة صوتًا خاصًا وهويةً لا يمكن تذويبها في بحر العربية وحدها.

نحو مستقبل مكتوب

قد لا تكفي القرارات وحدها لإنقاذ لغة من حافة الانقراض، لكنها تُعدّ الشرارة الأولى لمسار طويل من الحماية والتنشيط. القرار السقطري الأخير يمنح اللغة فرصة حقيقية لتصبح جزءً من التعليم، والإعلام، والبحث العلمي، ما قد يفتح الباب أمام نهضة ثقافية حقيقية في الأرخبيل.

والآن، يكمن الاختبار الحقيقي في تنفيذ خطة اللجنة خلال الأشهر القادمة، هل ستظل السقطرية لغة شفاهية على حافة الزوال؟ أم ستنبعث من جديد، كلغة مكتوبة تحفظ لأجيال الغد تراثًا عريقًا يمتدّ في جذور التاريخ؟.

زر الذهاب إلى الأعلى