اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

الزُبيدي والجارديان رسائل بين السطور

 محمد علي رشيد النعماني

في لحظات سياسية معقدة، برزت تصريحات الرئيس عيدروس الزُبيدي لصحيفة “الجارديان” بوصفها انعكاساً لخطاب جديد يتجاوز لغة الشعارات نحو منهج عقلاني واقعي. ما طرحه الزُبيدي لا يقتصر على توصيف الأزمة اليمنية، بل يرتقي إلى مقاربة تحليلية تتعامل مع الحقائق على الأرض وتبحث عن حلول قابلة للتطبيق، بعيداً عن التمني أو الخطابات التعبوية التي استنزفت الشارع اليمني لسنوات .
أول ما يلفت الانتباه في حديث الزُبيدي هو تبنيه بوضوح خيار الدولتين كحل سياسي وأمني واقتصادي للأزمة. ففكرة وجود كيانين مستقلين، شمالي وجنوبي، لم تعد مجرد طرح سياسي، بل أصبحت انعكاساً للواقع الموضوعي الذي فرضته الحروب والتحولات. هذه المقاربة تعكس إدراكاً بأن الاستمرار في البحث عن صيغة وحدة قسرية أو مركزية قد تجاوزه الزمن، وأن معالجة الأزمة تتطلب الاعتراف بالتوازنات الجديدة.
النقطة الثانية في خطابه تتعلق بـ حدود القوة العسكرية. فالزُبيدي أكد أن لا أمل في القضاء على الحوثيين أو إزاحتهم بالقوة، وهو بذلك يقدم قراءة نقدية للتجربة الممتدة منذ 2015، حيث أثبتت الوقائع أن الحرب وحدها لا تكفي لحسم الصراع. هذه الرؤية لا تعني القبول بالأمر الواقع الحوثي، وإنما تسليط الضوء على ضرورة التفكير في مقاربات أخرى، قائمة على إعادة هندسة المشهد السياسي بما يتسق مع الحقائق الجغرافية والاجتماعية.
كما شدد الزُبيدي على أن طريق التسوية السياسية بين الشمال والجنوب مسدود، في إشارة إلى أن أي حوار يختزل الأزمة في بعدها “الوطني العام” دون الاعتراف بالقضية الجنوبية سيبقى حواراً ناقصاً وغير منتج. هذه الرسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى المجتمع الدولي، الذي غالباً ما يركز على التفاوض مع الحوثيين أو السلطة القائمة في الشمال، متجاهلاً مطالب الجنوب وحقه في تقرير المصير.
أما في الشأن الداخلي، فقد حرص الزُبيدي على تأكيد أن القرارات والتعيينات التي أجراها تستند إلى حق سياسي أصيل، ما يعني أنه يسعى لتثبيت شرعية مؤسساتية جنوبية قادرة على إدارة شؤونها، بعيداً عن الارتهان لسلطات هشّة أو كيانات فاشلة في الشمال.
إن خطاب الزُبيدي بهذا الشكل يجسد نقلة في الخطاب السياسي الجنوبي من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة. فهو لا يطرح الجنوب كطرف معارض فقط، بل كحامل مشروع واقعي متكامل للتسوية. ومن منظور أكاديمي، يمكن اعتبار هذه الرؤية مثالاً على ما يسميه علماء السياسة بـ”البراغماتية التأسيسية” أي القدرة على بناء مشروع سياسي جديد انطلاقاً من قراءة دقيقة للواقع وتوازناته.
باختصار، الزُبيدي في حواره مع “الجارديان” لم يكن مجرد ناقل لمواقف، بل كان صانعاً لرؤية تحاول أن تفتح أمام اليمنيين شمالاً وجنوباً أفقاً مغايراً، أفقاً يتجاوز عبث الحرب والتسويات التقليدية، نحو حل يقوم على الاعتراف بالآخر وإعادة تعريف العلاقة بين الكيانين في إطار الدولتين ..

زر الذهاب إلى الأعلى