اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

بين العطاء والصمت: فصل في امتحان الصبر

 

كتب / بسمة نصر

 

ذلك اليوم لم يكن عاديا، كان تاريخا محفورا في ذاكرتي: 20/5/2022. يوم اجتمع فيه الامتحان الداخلي مع ثقل العلاقات، يوم علقت نفسي بين ثقة الأهل والأصدقاء، وبين اختبار ذاتي بدا أكبر من قدرتي على الاحتمال.

وللمفارقة، كان ذلك اليوم عيد ميلاد أختي، وكأن القدر شاء أن يضعني بين الفرح المفترض والخذلان الصامت.

 

فعلت الكثير في ذلك اليوم، أشياء صغيرة وكبيرة، أفعال تبنى بها الجسور وتختبر بها النوايا. أعطيت بلا حساب، وتحملت بلا صوت، وكنت أظن أن أثر ما فعلت سيبقى حاضرا في قلوب من حولي. لكن الصمت جاء قاسيا، لم يذكر أحد ما قدمت، كأن شيئا لم يكن. وهنا بدأ الامتحان الحقيقي: هل أقيس نفسي بميزان الآخرين، أم أزنها بميزانها الداخلي؟

 

ذلك الموقف كان مدرسة وجودية. أدركت فيه أن الصبر ليس أن تتحمل الألم فقط، بل أن تتحمل النسيان.

أن ترى جهدك يذوب في عيون الآخرين كقطرة ملح في بحر، ومع ذلك تواصل العطاء لأن العطاء هو جزء من جوهرك، لا سلعة بانتظار التقدير.

 

لقد علمني ذلك اليوم أن الإنسان يختبر في اللحظات التي يتجاهله فيها أقرب الناس. ليس لأنهم سيئون بالضرورة، بل لأن الحياة هكذا: “مزدحمة، قاسية، وربما عمياء أحيانا”.

وعلمني أيضا أن الذكرى التي لا يحفظها الآخرون، تحفظها الروح، كأنها نقش داخلي لا يزول.

 

إن الصبر الذي تكتشفه في مثل هذه اللحظات ليس صبرا سلبيا، بل صمود فلسفي: “أن تبقى وفيا لقيمك حتى لو لم يلتفت أحد، أن تمنح حبك وتضحياتك حتى لو مرت مرور الغيم”.

فالمجد الحقيقي ليس في أن يصفق لك الناس، بل أن تصفق لك ذاتك حين تقف وحيدًا وتقول: “نجحت في الامتحان”.

 

ذلك اليوم كان ميلادا آخر: ليس فقط عيد ميلاد أختي، بل ميلاد وعي جديد بداخلي. وها أنا اليوم أكتب هذه السطور لأعزي نفسي وأهنئها في آن واحد. أعزيها لأنها ذاقت مرارة النكران، وأهنئها لأنها صمدت أمام امتحان كان كفيلا أن يكسرها.

الصبر، في نهاية المطاف، ليس صمتا أمام الألم فحسب، بل هو فلسفة حياة: ( أن تستمر واقفا، أن تتحمل وحدتك، أن ترى جراحك وتحولها إلى معنى. وأن تكتب تاريخك الداخلي بمداد لا يمحى، حتى لو لم يقرأه أحد سواك).

زر الذهاب إلى الأعلى