الفصل الرابع: العطر الذي أربكني

كتب/ بسمة نصر
رواية “تحت الطاولة”
كعادتي، أصل إلى مقر عملي قبل بقية الموظفين بوقت كاف.
في ذلك اليوم، فوجدت ان أبواب المحل موصدة، فانتظرت برهة حتى حضر المدير. كان المكان على غير هيئته المعتادة، الغبار يكسو الأرفف، وبقايا الأوراق متناثرة على الأرض. وبرغم أن التنظيف ليس من مهامي، لم تطاوعني نفسي أن أستقبل الزبائن على هذه الحال.
تناولت المكنسة ومسحت الأسطح ورتبت الزوايا حتى عاد المكان يليق بسمعة المحل. ابتسم المدير وأوكل إلي مهمة فتح الأبواب، وما إن فعلت حتى تدفق الزبائن، وكأن السوق كان في انتظار تلك اللحظة.
وسط هذا الزخم، وقع الحدث الذي قلب يومي رأسا على عقب.
دخل رجل أسمر البشرة، عريض المنكبين، يعلو ملامحه الوقار، وتشي خطاه بالثقة. كان يمضغ التمبل ببطء، وحين أراد أن يبصق، خرج إلى الخارج ثم عاد كأن المكان ملك يديه. لكن ما أربكني حقّا لم يكن حضوره القوي، بل العطر الذي سبق خطواته، النفاذ، يحمل بعض من الغموض، كأنه رسالة خفية.
وحين وقف أمامي، وجدتني أراقبه في صمت، يداي معلقتان على لوحة مفاتيح جهاز الكاشير. كانت عيناه السوداويتان تشعان بلمعان غريب، وابتسامته كأنها اقتبست من مشهد سينمائي متقن.
قال وهو يمد إلي هاتفا:
– “السلام عليكم، هذا جهاز شقيقتي، تعطل… هل يمكن إصلاحه؟”.
ارتبكت للحظة قبل أن أجيبه:
– “تفضل… سيحتاج إلى ساعة فحص على الأقل”.
هز رأسه بابتسامة مقتضبة:
– “لا حاجة لساعة… أصلحيه وحددي لي موعد استلامه”.
ذهبت بالهاتف إلى المهندسة، فأخبرتني أن الجهاز سيكون جاهزا في اليوم التالي، وأن السعر سيحدد لاحقا. عدت وأبلغته، فأخذ الفاتورة وغادر، تاركا خلفه أثرا من عطره وكأنه أراد أن يبقى.
في اليوم التالي، وبينما كنت أتعامل مع زبائن المحل، لمحته قادما. لم أكن بحاجة لأن أراه وجها لوجه، العطر كان كافيا ليوقظ كل الحواس. وقف أمامي قائلا بابتسامة تخلو من الدفء:
– “أتذكرينني؟”.
ابتسمت:
– “وكيف أنسى… العطر كفيل بأن يذكّرني بك حتى لْـۆ كنت عمياء”.
سلمني الفاتورة، فتوجهت بها إلى المهندسة، لكنها قالت:
– “الجهاز لم يجهز بعد”.
أخبرته بذلك، فهز كتفيه بلا اكتراث:
– “لا بأس… أعود غدا”.
وجاء الغد… وكان الجهاز في الحقيقة جاهزا منذ الأمس، غير أن المهندسة رفضت تسليمه فورا. لاحقا فهمت أن الأمر لم يكن سوى حيلة لزيادة الأجرة.
فقلت بلهجة رسمية:
– لقد اكتشفنا قطعة مفقودة، لم نجدها في السوق المحلي، فاضطررنا لجلبها من منطقة أخرى… ولهذا ارتفع السعر من ثلاثين إلى سبعين ريالا.
راقبته ينتظر الشرح كاملا، ثم أخرج المبلغ دون أن يعلق، كأن المال لم يكن يعنيه بقدر ما يعنيه أن يظل الحوار مفتوحا بيننا. أما أنا.
وعند العاشرة مساء، قبل إغلاق المحل، عاد. كان الهاتف بين يدي، فناولته إياه قائلة:
– “أين الفاتورة؟… ها هي تفضل”.
توقف لثوان قبل أن يسأل بابتسامة لامست شيئا عميقا في داخلي:
– “أمتأكدة أن الجهاز صالح؟».
أجبته:
– “بكل تأكيد”.
غادر بخطوات هادئة، وابتسامة ساحرة، وعينين لا تزالان تلوحان في مخيلتي حتى هذه اللحظة.
(بعض الروائح لا تزول من الذاكرة، وبعض النظرات لا تحتاج إلى كلمات).