اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

الجنوب ومعركة السيادة الاقتصادية الصامتة

 

كتب/ د. عبدالرزاق عبدالله أحمد البكري
باحث سياسي وأكاديمي

 

منذ سنوات، يدور في الجنوب صراع من نوع مختلف، صراع لا يُسمع فيه دوي المدافع، لكنه لا يقل فتكًا عن الحروب العسكرية. إنه الصراع على القرار المالي، على السيادة الاقتصادية، على حق أبناء الجنوب في إدارة مواردهم، ومراقبة ما يدخل ويخرج من عملة في أسواقهم، دون وصاية مفروضة من فوق الطاولة أو تحتها.

في عدن، يبدو البنك المركزي كمن يقف في مهب ريح لا يملك أن يتخذ قرارا كاملا، ولا يفرض رقابة شاملة، رغم كونه المؤسسة السيادية المسؤولة نظريًا عن السياسة النقدية للبلاد. لكنه – في الواقع – محاط بشبكات مالية ومراكز نفوذ، بعضها في مأرب، وأخرى في الحديدة وتعز، تمارس عليه ضغوطًا مزدوجة: ترفض توريد الإيرادات، وتُغرق السوق الجنوبي بالمضاربات على العملة، في الوقت نفسه.

هنا، لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة. فمنذ ما بعد 1994، ومنذ أن حُسمت المعركة عسكريًا لصالح مشروع المركز، بدأ التخطيط لحرب اقتصادية طويلة الأمد ضد الجنوب. تغيرت الأدوات، لكن الهدف ظل نفسه: إضعاف قدرة الجنوب على بناء نموذج مستقل.

اليوم، يمكن لأي مراقب ميداني أن يسأل:

كيف لمؤسسات نفطية كبيرة في مأرب أن تُحصّل مليارات الريالات شهريًا، دون أن تدخل إلى البنك المركزي في عدن؟

ما السر في صمت السلطات المالية والرقابية على ممارسات موانئ الحديدة ومكاتب تعز التي تتصرّف خارج سلطة الدولة؟

ما الموقف الحقيقي مما يُعرف بـ”الشرعية” وهي تغض الطرف عن هذا التمرد المالي؟

من المستفيد من ترك الجنوب في دائرة التدهور الاقتصادي المفتوح؟

في مقابل ذلك، يظهر المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة سياسية تحاول إحداث توازن في معادلة مختلة. فهو يرفع صوته في كل مرة تُنهب فيها موارد الجنوب، ويقدّم رؤى اقتصادية متماسكة تطالب بالشفافية والمساءلة، لا الإقصاء أو الانتقائية في تطبيق القانون. لكن حتى الآن، لا يبدو أن هناك آذانًا صاغية من الأطراف الأخرى، ولا نوايا لتعديل مسار العلاقة المالية المختلّة.

لقد أصبح الانهيار الاقتصادي في الجنوب نتيجة طبيعية لسياسات تراكمية، شاركت فيها أطراف خارجية وداخلية، لكنها لم تكن لتنجح لولا وجود الغطاء السياسي والإعلامي الذي يُعيد تدوير الفشل وبيعه على أنه “وحدة وطنية”.

والسؤال الأخطر: إلى متى يمكن أن يُدار الجنوب بسياسات التجاهل؟
وهل من المقبول أن تظل المؤسسات الجنوبية تحت الرقابة والمحاسبة، بينما يتم إعفاء المؤسسات في مأرب والحديدة وتعز من أي التزام مركزي؟

ما يحدث اليوم لا يمكن قراءته فقط بلغة الأرقام، بل بلغة النفوذ، والقرار، والسيطرة. والجنوب – بكل ما يملكه من وعي مجتمعي وسياسي – بات يدرك أن السيادة لا تتجزأ. فمن لا يملك قراره المالي، لا يملك أن ينهض بمشروعه الوطني.

المرحلة تتطلب مقاربات واقعية وهادئة، تُبنى على اعتراف حقيقي بأن الاقتصاد لم يكن يومًا محايدًا في اليمن، وأن العدالة المالية كانت دومًا ضحية الاصطفاف السياسي.

في الختام…

ربما لا يحتاج الجنوب إلى “يدٍ من حديد”، بقدر ما يحتاج إلى إرادة صلبة، تستند إلى الحق، وإلى وحدة صف داخلية تدرك أن المعركة القادمة ليست فقط على الأرض، بل على من يتحكم بالموازنة، بسعر الصرف، وبحق المواطن الجنوبي في العيش الكريم.

زر الذهاب إلى الأعلى