عودة داعش إلى سوريا: تصعيد ميداني يعيد رسم خريطة الخطر الأمني والطائفي

عودة داعش إلى سوريا: تصعيد ميداني يعيد رسم خريطة الخطر الأمني والطائفي
استراتيجية التنظيم تتجاوز المواجهة العسكرية… والحل يتطلب مقاربة تتكامل فيها الجغرافيا بالاستخبارات والمجتمع
تحرير وتحليل خاص/ موقع “النقابي الجنوبي” استنادًا إلى مضمون نشرته صحيفة الشرق الأوسط، مع تقديم قراءة تحليلية متعددة الزوايا تربط المعطى العسكري بالتحولات الاجتماعية والأمنية.
أعدّت هذه المادة التحليلية استنادًا إلى ما كشفته صحيفة “الشرق الأوسط” في تقرير نشرته بتاريخ 26 يونيو 2025، حول مؤشرات عسكرية وأمنية لعودة تنظيم “داعش” إلى الساحة السورية، مدعومًا بتحليلات من مصادر ميدانية ومجهولة الهوية. ويأتي هذا التحقيق التحليلي لإعادة قراءة مضمون تلك التصريحات ضمن رؤية مركّبة تدمج بين المعطى الميداني والتحليل الاستراتيجي والاجتماعي.
في تطور ميداني يثير القلق، كشفت مصادر عسكرية سورية – وفقًا لما نقلته صحيفة الشرق الأوسط – عن مؤشرات خطيرة لعودة تنظيم “داعش” إلى المشهد السوري، ليس كخلايا نائمة كما اعتادت أجهزة الرصد والتحليل أن تتابعها منذ سنوات، بل كقوة عسكرية تنوي إعادة التموضع والظهور بضربات منسّقة وموجعة في آنٍ واحد. وفي ظل هذا المشهد المتغيّر، تبرز الحاجة إلى فهم ما يحدث بعيدًا عن التوصيف الأمني المباشر، والاقتراب من استراتيجية التنظيم في ضوء الجغرافيا، والفراغات السياسية، والتصدعات الاجتماعية التي لطالما كانت أرضًا خصبة لتمدد التطرف.
مخطط واسع النطاق… من حمص إلى العمق الحضري
وفقًا لما نقلته الصحيفة عن قائد في “الجيش السوري الجديد”، فإن تنظيم داعش يستعد لتنفيذ مخطط عسكري واسع النطاق ينطلق من مدينة حمص، ويهدف إلى السيطرة على أحياء متعددة في توقيت متزامن. هذا النمط من العمليات يحمل بصمات التنظيم في مراحله الأولى حين كان يعتمد تكتيك “الهجوم الخاطف”، لكنه اليوم يعكس محاولة للعودة إلى المشهد بطريقة منظمة رغم الفقدان الكبير للبنية اللوجستية والبشرية التي طالته في السنوات الأخيرة.
عودة الرمز: استهداف المقامات والأماكن الدينية
خطورة المخطط لا تقف عند حدّ التمدد الجغرافي، بل تتجاوزه إلى البعد الرمزي والديني. مصدر عسكري فضّل عدم الكشف عن هويته، أشار – بحسب التقرير – إلى أن “المعلومات التي حصلت عليها الأجهزة العسكرية تشير إلى أن الخطة تتضمن استهداف أماكن عبادة ومقامات دينية، في محاولة لإحراج الحكومة السورية وإظهارها عاجزة عن تأمين البلاد”.
هنا، لا يكتفي التنظيم باستهداف منشآت حساسة، بل يوجّه رسائل طائفية واضحة، ويعيد تدوير أحد أبرز أهدافه الاستراتيجية: خلق بيئة فوضى تخدم مشروعه الأيديولوجي وتزعزع النسيج المجتمعي. إنها محاولة لإعادة إنتاج سيناريوهات الحرب الأهلية تحت غطاء “الهجوم الديني”، وهي من أخطر التكتيكات التي استخدمها داعش في العراق وسوريا منذ عام 2014.
الصحراء منطلقًا.. والبادية ثغرة أمنية مفتوحة
يعتمد داعش اليوم في استراتيجيته على مناطق البادية والصحراء السورية، التي تمثّل ما يشبه “الفراغ الأمني المفتوح”، مستغلًا صعوبة تغطيتها عسكريًا وشح الإمكانيات البشرية والمادية في ملاحقة التحركات المتنقلة عبرها. التنظيم يدرك تمامًا أن هذه المناطق لا تزال خارج نطاق السيطرة الصارمة، ويملك فيها شبكات نائمة قادرة على التمويه والاختباء.
الجغرافيا هنا ليست فقط مسرحًا للعمليات، بل أيضًا جزء من أدوات النجاح. التنظيم يتحرك حيث تنتهي خرائط السلطة المركزية، ويظهر حيث يغيب التنسيق بين القوى المحلية والدولية. وهو بذلك لا يختلف كثيرًا عن أنماط حركات التمرد التي تعتمد استراتيجية “المركز الضعيف والطرف المفتوح”.
استراتيجية الصدمة: ضربات نوعية تعيد التموضع
يُراهن داعش على تنفيذ ضربات نوعية تحدث صدمة، وتعيده إلى واجهة المشهد، لا بالضرورة من أجل السيطرة الميدانية الكاملة، بل لإظهار الحضور والقدرة، وربما التأثير على توازنات القوى في الداخل السوري، وسط تصاعد التوترات الإقليمية التي تشتت تركيز القوات المحلية والدولية. هذا النمط من الهجمات ينتمي إلى ما يسميه خبراء مكافحة الإرهاب بـ”عمليات إعادة الاعتبار”، حين تلجأ التنظيمات إلى إثبات بقائها عبر مشاهد دموية تخترق الإعلام وتربك الحسابات العسكرية.
تكتيكات العصابات والتجنيد الاجتماعي: العودة عبر التهميش
في تقييم محللين أوردهم التقرير، فإن التنظيم يعتمد حاليًا على تكتيكات حرب العصابات، ويتجه نحو تجنيد عناصر محلية من مناطق مهمّشة اقتصاديًا وأمنيًا. وهي استراتيجية براغماتية تستفيد من هشاشة الدولة في تلك المناطق، وتحوّل الغضب الشعبي أو الإحباط إلى أدوات للقتال.
التنظيم لم يعد يراهن على “الأنصار الأيديولوجيين” فقط، بل بات يعتمد على “الأنصار المصلحيين”، أولئك الذين يدفعهم الفقر أو الانتقام أو العزلة للانضمام إلى صفوفه. وهنا يصبح السؤال مشروعًا: هل الدولة السورية ومن خلفها المجتمع الدولي يملكان الأدوات لمعالجة هذا المستوى من الخطر المركّب؟
ردود محدودة… وجهود استخباراتية قيد التفعيل
في المقابل، تعمل السلطات السورية على تعزيز جهودها الاستخباراتية والعسكرية، لمحاولة عزل التنظيم عن أي حاضنة اجتماعية محتملة. كما يجري التنسيق مع شركاء دوليين لمراقبة تحركات الخلايا وقطع طرق التمويل.
لكن، وعلى الرغم من تلك الجهود، تبقى تحديات الثقة، والانقسامات السياسية، والتشابك الإقليمي، عناصر تُقلل من فعالية الردّ السوري والدولي. فقد أثبتت تجربة العقد الماضي أن “الرد العسكري وحده لا يكفي”، ما لم يُدمج مع سياسات احتواء مجتمعي واستعادة للثقة بين السكان والدولة.
التنظيم والبيئة الطائفية… تحذيرات من إعادة إنتاج الصراع
أخطر ما في الأمر، بحسب التحقيقات التحليلية، أن التنظيم يسعى إلى إعادة تفعيل البنية الطائفية للنزاع، عبر استهداف المقامات الدينية، واستثارة ردود فعل شعبية وعقائدية. هذه الاستراتيجية، وإن بدت محدودة عسكريًا، إلا أنها قادرة على فتح أبواب واسعة من عدم الاستقرار، خصوصًا في مناطق تشهد حالة من التعافي الأمني الهش.
العودة إلى هذا النوع من التصعيد قد تعرقل جهود الاستقرار وإعادة الإعمار، بل وتعيد إنتاج البيئة نفسها التي خرج منها داعش في المرة الأولى، في ظل غياب الحلول الشاملة، والانقسام الحاد في الرؤية السياسية لسوريا المستقبل.
ما بعد الهجوم… رؤية تتجاوز الجغرافيا والسلاح
إن الواقع الذي تفرضه عودة “داعش”، سواء بشكل واسع أو حتى عبر خلايا متنقلة، يطرح معضلة لا تخص سوريا وحدها، بل تتطلب مقاربة إقليمية وجيوسياسية متكاملة. فطالما بقيت مناطق في سوريا تعيش تحت خط الأمن والخدمات والتمثيل السياسي، فإن التنظيم سيبقى حاضرًا، ليس لأنه قوي، بل لأن الواقع ضعيف.
ما تحتاجه اليوم سوريا ليس فقط قوة ردع عسكرية، بل قوة استباق ناعمة: عبر الاستثمار في التنمية، والتعليم، والمصالحة، وإعادة بناء مؤسسات محلية متماسكة. داعش ليس فقط تنظيمًا، بل انعكاسًا لمجتمع مخلخل. ولعله آن الأوان لفهم أن النصر عليه لا يُقاس بعدد الضربات الجوية، بل بعدد القرى التي استعادت الثقة بدولتها.