اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

هل كتب فتحي أبو النصر عن عدن أم عن خيبة أمله؟

 

كتب / هشام صويلح

ثمة نوع من الخطاب لا يريدك أن تقرأ التاريخ، بل أن تصدّقه كما يحكيه أصحاب الجغرافيا الزاحفة. فتحي أبو النصر، في مقاله الأخير، لم يكتب عن جده أحمد عبده ناشر العريقي، بل كتب عن “حق تاريخي” مزعوم لتعز في عدن، وعن ميراث شخصي يحاول تسويقه كأنه وثيقة ملكية على مدينة لم تنتخب أحدًا ليتكلم باسمها. المقال ليس تأبينًا، بل ادعاء غريب لوصاية تعزية على عدن، باسم “الوحدة”، وبدماء يقول الكاتب إنها سالت هنا، لكنها في الذاكرة الجنوبية سالت في الاتجاه المعاكس.

حين يصرخ الكاتب بأن “عدن لا تكون بدون تعز”، فإن القارئ الحصيف لا يسمع سوى حنين مبطّن لمندوب سامٍ جديد، يأتي من الحوبان. كان جده مليونيرًا، عظيمًا، عريقًا – حسبما كتب – لكنه لم يخبرنا لماذا لم يحرر تعز من الفقر حينها، أو لماذا ظل أبناء تعز حتى السبعينات يقصدون عدن ليسكنوا أطرافها كعمال لا كثوار. هل كان الجنوب يحتاج إلى دائنين؟ أم أن التحرير عندهم كان دومًا مشروطًا بفاتورة مؤجلة يدفعها الجنوبي لاحقًا باسم “الجميل التاريخي”؟

يريدنا فتحي أن نصدّق أن عدن مدينة يديرها “مجلس الورثة”، وأن كل من امتلك جدًا شارك بصندوق ذخيرة أو شحنة فول في الخمسينيات، يحق له أن يُلقي علينا خطب الوطنية من شرفة العائلة. فجأة، تصبح عدن فرعًا من تعز، ويُعاد تدوير أسمائها ومعاهدها على أنها منجزات “آل ناشر”، وكأننا نقرأ نشرة عائلية لا مقالة سياسية.

المثير للسخرية أن من يعيّر الجنوبيين بالتاريخ، لا يملك منه سوى دفتر قديم في أدراج الذاكرة، يتلوه كمنشور مكرر على جروبات “واتساب”. أما عدن، التي يعرفها الجنوبيون جيدًا، فلم تكن يومًا بحاجة إلى محاضرات من مستثمرين عاطفيين يبيعوننا حنينًا معلبًا باسم الثورة، ويظنون أن صورة الجد كافية لتأجير الدور الوطني مدى الحياة.

حقًا، إن أسوأ ما في الاستعمار لم يكن الإنجليز، بل من ورثوا عقد الإيجار بعد رحيلهم.

حين يكتب أبو النصر عن عدن وكأنها حيٌ من تعز، فإنه لا يعبر عن حنين بريء، بل عن رغبة دفينة في إعادة تطويع الجنوب تحت المشروع الثقافي الشمالي، الذي يعيد إنتاج نفسه في صور متعددة: مرة في عباءة “النضال المشترك”، ومرة أخرى باسم “الوحدة قدر ومصير”. والمفارقة أن ذات الوجوه التي تتحدث عن “دعم الجنوب” هي نفسها التي بررت قصف عدن في الاحتلال الأول عام 1994، ثم أعادت إرسال جحافلها الاحتلالية مرة أخرى في 2015.

يشكو أبو النصر من رسائل ساخرة وصلته بعد منشوره عن جده، لكنه لم يدرك أن أكبر سخرية هي ما كتبه بنفسه. هو لم يكتب مقالًا سياسيًا، بل خطابًا للشفقة التاريخية، مطالبًا بعدن أن تقول شكرًا كل صباح لتعز، لا لأنها وقفت معها، بل لأنها “كانت هناك”. أيُّ استعلاء هذا؟ منذ متى كان الحضور بحد ذاته صك فضل؟ ومن قال إن الثورة تُقاس بعدد أبناء تعز في الميناء؟ أم أن كل عابر عبر التواهي صار ثائرًا وجنديًا في سجل التحرير؟

ما كتبه فتحي أبو النصر، حتى لو سلّمنا بصحة السرد، لم يكن سوى محاولة أنيقة للتسلل إلى روح عدن من نافذة العائلة. لكنها نافذة مكسورة، ومفتاحها مفقود من زمان.

عدن، كما نعرفها، لا تستقبل الخطاب العاطفي التوسلي، ولا تضع تماثيل للمندوبين الساميين.

عدن ليست مدينة “أنقذها التعزيون”، بل مدينة تحاول أن تنقذ نفسها اليوم من سذاجة هذا الخطاب، ومن زيف البطولات المحمولة في حقائب سفر.

وصدق من قال:
في الجنوب، لا يكتب التاريخ مَن يتكئ على ذاكرة زائفة، بل من يواجه الحاضر بالحقيقة.
وبين “كان جدي” و”كانت عدن”، ثمة فرق كبير: الأول قصة عائلية… والثانية قضية لا تُؤخذ بالميراث..

فكل سردية وُلدت في أعالي الحجرية، تموت عند أول طلقة صدّها الجنوب من على تخوم عدن،
حيث لا تمرّ أوهام التاريخ إلا بعد تفتيشها على بوابة الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى