معاناة المعلم أ/ بشير الشنبكي.. بين شجرة الأهمال وأوجاع الوطن

النقابي الجنوبي/يافع _ تقرير صالح البخيتي
في زاوية ضيقة من غرفة العناية المركزة في مستشفى عدن الألماني، يرقد المعلم بشير عاطف أحمد الشنبكي، موصولاً بأجهزة التنفس، محاطاً بآلامه وسط صمت مطبق من الجهات المعنية، بعد أن تحولت محاولته البسيطة لكسب قوت أولاده إلى مأساة إنسانية تهدد حياته، وتكشف في الوقت ذاته حجم المأساة التي يعيشها المعلم في المحافظات المحررة، كأحد أكثر الفئات تهميشاً ومعاناة في مجتمع يئن تحت وطأة الجوع والفقر ولهيب الأسعار.
حادثة مروّعة في سبيل لقمة العيش
كان صباح الرابع عشر من مايو الجاري يوماً عادياً لبشير، معلم مادة الرياضيات في مديرية سرار بمحافظة أبين، قبل أن ينقلب رأساً على عقب. توجه إلى منطقة جبلية وعرة في مديرية سباح، حيث اتفق مع أحد المواطنين على قطع شجرة كبيرة مقابل مبلغ مالي زهيد، في محاولة لتأمين احتياجات أسرته المكونة من زوجة وستة أطفال.
لكن تلك الشجرة كانت أثقل من أحلامه وأقسى من الواقع الذي يعيشه؛ إذ سقطت فوقه أثناء قطعها، وأصابته إصابات بالغة في جسده، حيث تعرض لكسور متعددة في الحوض، وفصل في عظمة العانة، وإصابات في الأرجل،وتمزقات في أنسجة البطن والجانب الأيمن من الجسم، إضافة إلى مضاعفات خطيرة منها الالتهابات وتلوث أنسجة البطن وارتفاع ضغط الدم ووظائف الكلى، بحسب ما أكده التقرير الطبي الصادر عن مستشفى عدن الألماني.
صراع مع الألم تحت ظل صمت الجهات الحكومية
تم نقل بشير بصعوبة إلى المستشفى، حيث خضع لعملية جراحية طارئة لإزالة الأنسجة المتضررة، تكلّفت 650 ألف ريال يمني، وتلا ذلك سلسلة من الفحوصات الدقيقة، من أشعة مقطعية وتحاليل وجرعات دوائية باهظة. وبحسب الفريق الطبي،إن وضعه لا يزال حرجاً، ويحتاج إلى عمليات إضافية في منطقة الحوض، وربما إلى تدخل جراحي في الأمعاء إذا ثبت وجود إصابة في المستقيم، ما يرفع تكاليف العلاج إلى أرقام تفوق قدرات أسرته التي أصبحت على حافة العجز الكلي.
ورغم حجم الكارثة، لم تُسجَّل أي استجابة رسمية حتى اللحظة من وزارة التربية أو أي جهة حكومية تعنى بشؤون المعلمين، ما يُضاف إلى سجل طويل من الإهمال والتجاهل لمعاناة هذه الشريحة الحيوية في المجتمع.
من معلم إلى حطاب.. قِصة استنزاف الكرامة
يُعد الأستاذ بشير من أبرز المعلمين في مديرية سرار يافع التحق بالتربية والتعليم منذُ عام 1997، وعمل في عدد من المدارس منها المجزع، والمقيصرة، ومدرسة محمد عبد للبنين، وثانوية سرار، متنقلاً على مدى أكثر من 28 عاماً بين الفصول الدراسية، حاملاً على كتفيه رسالة التعليم، في ظروف لم تكن يوماً مواتية.
يقول الشنبكي في حديث مقتضب قبل أن تشتد عليه المضاعفات: “تعبنا.. التعليم ما عاد يطعِم خبز. أريد فقط أن أتحرك، أرجع لأولادي، أرجع للسبورة والطلاب.. الحياة قاسية لكن لا خيار آخر لنا غير أن نعيش بكرامة.”
لكن الكرامة التي تحدث عنها المعلم الممدد على سرير المرض، يبدو أنها باتت حلماً صعب المنال في واقع لا يرحم.
المعلم .. بوصلة الانهيار المعيشي
المأساة التي يعيشها بشير الشنبكي ليست استثناءً بل باتت القاعدة لمعظم المعلمين في المحافظات الجنوبية التي تحكمها الشرعية. فمع تدني الرواتب إلى أدنى مستوياتها، اذ لا يتجاوز راتب المعلم في كثير من المناطق 100 ألف ريال يمني، وأحيانًا 50 ألف فقط، يعيش المعلمون في حالة من الفقر المدقع، مقارنة بأسعار السلع الغذائية التي ترتفع باستمرار. اليوم، لا يكفي راتب معلم لشراء “قطمة رز”، كما يصف البعض.
ومع غياب الحلول الحكومية أو أية خطط إصلاحية في قطاع التعليم، لجأ معظم المعلمين والمعلمات إلى أعمال أخرى، منها ما هو شاق وخطير كالعمل في البناء أو الزراعة أو تقطيع الأشجار، أو أعمال خدمية في الأسواق، وحتى التسول في بعض الحالات، وكل ذلك فقط لتأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرهم.
شريحة منسية تنهكها السنين
من المؤسف أن من يُفترض أن يكون عماد الوطن، وباني العقول، وركيزة النهضة، يجد نفسه اليوم على قارعة الإهمال، تنهشه الأمراض والحاجة. التعليم لم يعد مهنةً، بل أصبح عبئاً لا يُطاق في ظل الانقطاع المتكرر للرواتب في بعض المناطق، وعدم الانتظام في صرفها، وتآكل قيمتها بفعل التضخم وغياب الدعم الحكومي.
ولم يقتصر الضرر على الجانب المادي فقط، بل امتد ليشمل الجانب النفسي والمهني للمعلمين. حالياً كثير من المدارس تفتقر إلى الحد الأدنى من الوسائل التعليمية، ومناهج مهترئة، ومقاعد مكسرة، وبيئات غير صالحة للتعليم. في مثل هذا الوضع، لم يعد من الغريب أن نسمع عن طلاب في الصف السادس لا يجيدون القراءة أو الكتابة، أو أن نرى معلمين يعملون في النهار كعمّال، ويعودون في المساء لتصحيح أوراق الامتحان على ضوء الشموع.
مناشدة إنسانية عاجلة
وفي ظل هذا الوضع المأساوي، وجهت أسرة الأستاذ بشير الشنبكي مناشدة إنسانية عاجلة إلى أصحاب الأيادي البيضاء ورجال الخير وكل من يملك قلباً رحيماً، إلى تقديم الدعم لإنقاذ حياته. وتقول أسرته : “لا نطلب المستحيل، فقط نريده أن ينجو، أن يرجع لأطفاله، أن يكمل رسالته. نحن لا نملك شيئاً وكل ما لدينا استنفذناه في المستشفى.”
كما عبّر عدد من زملاء الشنبكي في السلك التربوي بالمديرية والمحافظة عن تضامنهم الكامل معه، وأكدوا أن ما تعرض له هو نتيجة مباشرة لتجاهل الدولة لهم ولسنوات خدمتهم. وقال أحدهم: “نحن كمعلمين أصبحنا الحلقة الأضعف، نُطالب ونُحاسب، لكن لا أحد ينظر إلينا كأولوية. إلى متى نظل ننتظر من لا يأتي؟”
دعوة للمجتمع المدني والمنظمات
وطالب شريحة من التربويون المنظمات المحلية والدولية والصناديق المانحة إلى سرعة التدخل لمعالجة ملف التعليم في المحافظات المحررة، وعلى رأسه قضية المعلمين، داعين إلى دعم هذه الشريحة بمشاريع مباشرة لتحسين دخلهم، أو توفير التأمين الصحي، أو إطلاق صندوق لدعم المتضررين منهم، خاصةً في ظل استمرار الحرب والظروف الاقتصادية السيئة.
كما دعوا رجال الإعلام والأعمال والخيرين في الداخل والخارج إلى إطلاق حملات تضامنية لمساعدة المعلم بشير الشنبكي ومَن هم على شاكلته، لتكون هذه المُبادرات جسراً للأمل في وجه الواقع القاتم.
ختاماً كرامة التعليم من كرامة الوطن
قضية الأستاذ بشير الشنبكي تتجاوز حدود الجسد المصاب، إنها صورة مصغرة لمعاناة كبيرة يعيشها مئات الآلاف من المعلمين الجنوبيين .هي جرس إنذار بأن التعليم ينهار، وأن من يحملون شعلته يموتون بصمت، تحت أقدام الفقر، والإهمال، واللامبالاة.
إن إنقاذ الأستاذ بشير اليوم، ليس فقط إنقاذاً لحياته، بل تذكير بأن كرامة التعليم تبدأ من كرامة معلمه، وأن من لا يكرّم معلميه لا مستقبل له.


