النقابي الجنوبي: اعلان كاك بنك
اخبار وتقارير

كهرباء عدن.. حينما يتحول العجز إلى بوابة للنهب المنظم باسم “الضرورة

كهرباء عدن.. حينما يتحول العجز إلى بوابة للنهب المنظم باسم “الضرورة”

النقابي الجنوبي/ تقرير: هشام صويلح

تُعد أزمة الكهرباء في عدن من أقدم صور الفشل الإداري المزمن في منظومة ما يُفترض أنها دولة. لكنها هذه المرة لا تُعبّر فقط عن غياب الخدمة أو تراجع الأداء، بل تمثل واجهة فاضحة لتحويل الحاجة العامة إلى مورد للربح الخاص، عبر قنوات غير قانونية، وأطراف تتصرف دون وجه حق، تحت غطاء الصمت، أو بالأحرى “القبول الضمني” من السلطات.

ما يحدث حاليًا من توقيع عقود تجارية لتوفير الكهرباء بين شركة خاصة تُدعى “الكهالي” والمواطنين في عدن، ليس حلاً بقدر ما هو امتداد لمشكلة أكبر، تعكس هشاشة النظام الإداري في المدينة، وتهاوي الدور السيادي للدولة على الخدمات العامة. فالمسألة لم تعد تتعلق بانقطاعات التيار أو نقص الوقود، بل بتجريد السلطة من سلطتها، والمجتمع من حقوقه، في سياق ممنهج لتفكيك ما تبقى من منظومة الخدمة العامة.

قطاع خاص يمارس دور الدولة

ليست الكارثة في دخول القطاع الخاص على خط توليد الكهرباء، ففي حالات الطوارئ، تلجأ الدول أحيانًا إلى حلول بديلة مؤقتة. الكارثة أن هذا الدخول تم دون ترخيص، ولا تنظيم، ولا معايير واضحة، بل على هيئة مؤسسة تجارية تنصب نفسها مزوّدًا عامًا للطاقة، وتوقع عقودًا مُذلّة مع المواطنين، تحتوي على شروط أحادية مجحفة، وتسعيرات مبهمة، وتغريم مباشر للمستهلكين دون أن تكون هناك جهة رقابية واحدة تشرف أو تراجع أو تحاسب.

أخطر ما في هذه العقود هو أنها تنشئ “علاقة إذعان” لا “علاقة خدمة”. فالمواطن يوقع دون خيارات، ويدفع دون تفاوض، ويُعاقب دون محاكمة، فيما تتصرف المؤسسة باعتبارها سلطة فوق القانون، تمتلك القدرة على القطع، والمصادرة، والتعديل، وتحصيل الأرباح، دون أن تكون ملزمة بأي مسؤولية اجتماعية أو خدمة عامة.

شرعنة غير معلنة للفوضى

حين تُمنح مؤسسة خاصة حق التمدد في الأحياء، وتركيب العدادات، وبناء شبكة توزيع كاملة، دون سند قانوني، فإننا لا نتحدث عن شركة عادية، بل عن منظومة موازية نشأت في ظل الانهيار، وتغذت على غياب الدولة، وتضخّمت بفعل التجاهل، حتى تحولت إلى كيان يفرض شروطه على المواطنين ويُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والخدمة، ليس كمستحق بل كـ”زبون مكره”.

وما يدعو للريبة، أن هذه الشركة لا تملك في الأساس ترخيصًا رسميًا بتقديم خدمات الكهرباء المنزلية، بل تعتمد على سجل تجاري عام يسمح ببيع وتأجير الطاقة. وهي ثغرة تم استغلالها للتوسع بلا قيد، ما يطرح علامات استفهام حول من سمح بذلك، ومن غض الطرف، ومن استفاد، ومن موّل، ومن يتقاسم الأرباح.

غياب القانون = شرعنة النهب

إن السكوت عن مثل هذه الممارسات لا يمكن تصنيفه كعجز إداري فقط، بل يتجاوز ذلك إلى كونه نوعًا من التواطؤ المؤسسي الذي يسمح بتجريف حقوق الناس مقابل تسويات مشبوهة، أو مصالح ضيقة، أو على الأقل تواطؤ بالصمت. لأن الدولة حين تفشل في تقديم خدمة أساسية كالكهرباء، فإن دورها لا ينتهي، بل يبدأ من خلال تنظيم البدائل، وضبط الأسعار، وضمان العدالة، وليس فتح الباب للفوضى ليُصبح المواطن سلعة، لا صاحب حق.

وما يجري على الأرض هو انقلاب كامل على مبدأ الخدمة العامة. فالكهرباء، التي تُعد من أهم المرافق السيادية، باتت في عدن تُباع وتُؤجّر وتُدار بمنطق السوق السوداء، دون أن يكون للمواطن أي حماية قانونية أو غطاء رسمي. بل ويُفرض عليه القبول بعقود تُمكّن الجهة التجارية من اتخاذ إجراءات تأديبية بحقه، دون الرجوع إلى أي مؤسسة شرعية.

عدن تُدار بمنطق المزارع

في دولة تحترم نفسها، لا يمكن لأي مؤسسة خاصة أن تبني شبكة كهرباء، وتوصل الخدمة إلى المنازل، وتحصّل الرسوم، وتُعاقب المواطنين، دون أن تمر عبر سلسلة من التراخيص والموافقات والتنظيمات الصارمة. أما في عدن، فكل ذلك يحدث دون حسيب أو رقيب، وكأن المدينة تحوّلت إلى مزرعة كبيرة يتقاسم أرباحها المتنفذون، وتُستباح فيها حقوق الناس بدعوى “تغطية العجز”.

وهذه ليست مجرد مخالفة إدارية، بل تعدٍ صريح على وظيفة الدولة، وتهديد لبنيتها السيادية، وضرب لآخر ما تبقى من منطق المؤسسات. فحين يُصبح لكل تاجر حق إنشاء شبكة خدمات، وربط المواطنين بها، وجني الأرباح منهم، وفرض الشروط عليهم، فإننا لا نكون أمام قطاع خاص، بل أمام دولة بديلة، مموّلة من جيوب المواطنين، ومُحصّنة بصمت السلطات.

متى كانت الحاجة مبررًا للتجريد من الحقوق؟

يُقال إن الناس يقبلون بهذه العقود لأنها “أهون الشرّين”، في ظل انقطاع الكهرباء الرسمية. لكن هذا ليس مبررًا قانونيًا، ولا غطاءً أخلاقيًا، لتحويل المواطن إلى رهينة، باسم الحاجة. فالدولة التي تعجز عن توفير الخدمة، مطالبة على الأقل بتنظيم السوق، لا بإطلاقه للنهب العشوائي. وإن كان لا مفر من إشراك القطاع الخاص، فذلك يجب أن يتم عبر مناقصات شفافة، وعقود عادلة، وإشراف حكومي صارم، لا عبر “بلطجة تجارية” مغلّفة بعنوان الخدمة البديلة.

فصل جديد من الإفقار الممنهج

الواقع في عدن اليوم لا يُظهر فقط تراجع الدولة، بل تواطؤها في عملية إفقار الناس من خلال السماح لهذه النماذج بالتمدد. فبدل أن تحمي الفقير وتدعمه في توفير الكهرباء، تتركه فريسة لابتزاز جديد، يدفع فيه أضعاف ما كان يُفترض أن يدفعه، دون أن يحصل على خدمة مضمونة، أو حتى كهرباء مستقرة.

لقد أصبح من المألوف أن يدفع المواطن مبالغ ضخمة للحصول على “كهرباء تجارية” تُزوّد لساعات معدودة، فيما الدولة تتفرّج، وكأنها غير معنية، أو ربما شريكة ضمنيًا في المكاسب، أو عاجزة عن مواجهة مافيا الخدمات التي تتحكّم بالمشهد.

ختامًا: عندما تتحول الخدمة إلى سلعة، تنهار العدالة

ما يحدث في عدن يتجاوز كونه خللاً في تقديم خدمة الكهرباء، ليكشف عن فراغ قانوني يُستغل لتحويل الحاجات الأساسية إلى مصادر ربح خاص بلا رقابة. فحين تُعطى الأولوية للربح على حساب الناس، وتُترك الخدمة العامة بيد جهات خاصة بلا ترخيص، فإن جوهر العدالة الاجتماعية يتآكل، ويصبح البقاء في النور امتيازًا لا حقًا.

الصمت عن هذه الممارسات ليس حيادًا بل تواطؤ، واستمرارها لا يعني فقط تقويض الثقة في المؤسسات، بل يفتح الباب أمام فوضى الخدمات وتكريس استغلال المواطنين في أبسط احتياجاتهم.
لا للتطبيع مع الفوضى المقننة، لا لسماسرة الخدمات باسم الضرورة.

زر الذهاب إلى الأعلى