قرارات البنك المركزي بعدن بين الإصدار والإلغاء .. وقفة لمراجعة الذات

ظل النظام المصرفي والمالي شبه غائب عن الاقتصاد الوطني في الدولة الجنوبية حتى استقلال الجنوب عام 1967م أصبحت تلك الفترة الخطوة الأولى لنشأة النظام المصرفي.
نشأة النظام النقدي في الجنوب بدأت عام 1871م عندما أفتتح أول فرعين لوكالة (لوك توماس) البحرية ووكالة (قهوجي دنشا) الهندية في عدن كانتا تقومان بأعمال التمويل المصرفي من أجل تيسير نشاط الشركات الهندية والبريطانية.
ومع تزايد الأهمية التجارية لمدينة عدن أثناء الاحتلال البريطاني بدأت المصارف الكبرى في الهند وبريطانيا تفتتح فروعاً في عدن ففي عام 1895م أفتتح البنك الأهلي الهندي فرعه في مدينة عدن وظلت فروع الوكالات والمصارف تحتكر النشاط المالي في مدينة عدن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بعدها ظهرت عدد من الوكالات والمصارف العربية والأجنبية نتيجة التطور الاقتصادي لمدينة عدن وإنشاء مصفاة البترول والتي بلغت حينها سبع وكالات وسبعة فروع لبنوك عربية وأجنبية وبهدف تنسيق سياستها المصرفية مع عملائها قامت هذه البنوك بإنشاء جمعية لها عام 1956م.
يعتبر عام 1964م نقطة تحول في التاريخ النقدي لدولة الجنوب حيث تم فيه إنشاء مؤسسة نقد الجنوب العربي والذي تم بموجبه استقلال منطقة عدن نقدياً عن منطقة شرق أفريقيا.
بعد أن أعلن الجنوب استقلاله من الاحتلال البريطاني عام 1967م تم تأميم جميع المصارف التجارية التي كانت تعمل بموجب القانون رقم (27) لسنة 1969م، ودمجت جميعها في مصرف واحد سمي بـ (البنك الأهلي).
في العام 1972م صدر قانون النظام المصرفي رقم (36) بإنشاء مصرف مركزي متخصص يتولى جميع وظائف واختصاصات ومهام المصرف المركزي ومن ضمن المهام التي وردت في نص القانون متابعة ودعم دور النظام المصرفي في التنمية.
بعد الوحدة المشؤومة في عام 1990م، كان أول إجراء اتخذته حكومة الوحدة إصدار القانون رقم (21) لسنة 1991م الذي نص على توحيد المصرفين المركزيين الحكوميين في مصرف مركزي واحد يسمى (البنك المركزي اليمني) برأسمال (150) مليون ريال واعتبر البنك المركزي في عدن وجميع فروعه في المحافظات الجنوبية والشرقية فروعاً للبنك المركزي الموحد في خطوة لفرض تبعية الاقتصاد الجنوبي.
وحددت مواد القانون أهداف البنك المركزي الموحد في:
حق إصدار العملة وإدارتها.
تنظيم الأعمال المصرفية والائتمانية.
إدارة احتياطي الدولة من الذهب والعملات الأجنبية.
ضمان استقرار العملة وتحقيق التوازن الداخلي والخارجي.
ممارسة أي اختصاصات توكل إليه أو يقوم بها نيابة عن الحكومة.
أداء مهمة المستشار الاقتصادي والمالي والمصرفي للحكومة.
وتشكل الهيكل التنظيمي لإدارات البنك المركزي على النحو التالي:
المحافظ
نائب المحافظ
قطاع العمليات المصرفية الخارجية
قطاع الرقابة على البنوك
قطاع الشؤون المالية والإدارية
قطاع العمليات المصرفية المحلية
قطاع الفروع
الإدارة العامة للحسابات المركزية
الإدارة العامة لتقنية المعلومات
الإدارة العامة للإحصاء والبحوث
الإدارات العامة التي تتبع المحافظ مباشرة.
وفي ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية على مدى تسيد موقف الحكومات المتعاقبة وتهادنها مع إملاءات مليشيات الحوثي بتحكمها في السياسة النقدية والقوانين المصرفية في تلبية رغباتها وتجاهلها معاناة المواطن في العاصمة عدن والمحافظات الجنوبية والأعباء المعيشية التي يتكبدها جراء العبث بسعر صرف العملات الأجنبية أمام العملة المحلية إلى ما يفوق القدرة على الاحتمال وانعكاساته على الحياة اليومية للمواطن المتضرر المباشر مما يجري حوله خاصة منذ العام 2016 إبان نقل مقر البنك المركزي من قبضة نفوذ مليشيات الحوثي في العاصمة اليمنية صنعاء حتى لحظة تفاجئ المليشيات بصدور قرار محافظ البنك المركزي بعدن أحمد المعبقي رقم 20، بوقف التعامل مع 6 من أكبر البنوك اليمنية العاملة في مناطق سيطرة المليشيات بهدف تحجيم نفوذ وقدرات الحوثيين الاقتصادية.
وشمل قرار وقف التعامل البنوك التالية: «التضامن»، و«اليمن والكويت»، و«اليمن البحرين الشامل»، و«الأمل للتمويل الأصغر»، و«الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي»، و«اليمن الدولي».
كان قرار إلغاء تراخيص البنوك الستة الرئيسية لعدم الاستجابة لقرار البنك المركزي نقل مقراتها الرئيسية إلى العاصمة عدن وخضوعها لقوة مليشيات الحوثي بعدم السماح لها بتلبية قرارات مركزي عدن.
كما أصدر محافظ البنك المركزي اليمني أ. أحمد أحمد غالب قرار رقم (32) بشأن إيقاف تراخيص عدد من شركات ومنشآت الصرافة التالية:
شركة العماري للصرافة.
شركة القاسمي الدولية للصرافة.
منشأة العمودي للصرافة.
منشأة عبدالسلام المفلحي للصرافة.
منشأة الشواحي للصرافة.
منشأة الخامري للصرافة.
وذلك بناء على المخالفات المثبتة بتقرير النزول الميداني المرفوع من قطاع الرقابة على البنوك ولما تقتضيه المصلحة العامة.
في ظل ذلك اتخذ البنك المركزي بعدن إجراءاته التصاعدية بدء ببيان إدانة للممارسات الحوثية جاء فيه:
“يدين البنك المركزي بأشد العبارات الممارسات التعسفية الحوثية ضد القطاع المصرفي الوطني وخاصة البنوك التجارية والإسلامية وبنوك التمويل الأصغر التي مازالت إداراتها الرئيسية بالعاصمة اليمنية صنعاء وفروعها العاملة بالمحافظات المحررة واستخدام المليشيات كل وسائل الضغط والإكراه والابتزاز لإجبارها على قفل فروعها وتجميد أعمالها بالتجاوز لكل القوانين والأعراف المصرفية ويشدد البنك على أن هذا التصرف غير المسؤول لهو دليل كاشف عن مدى تغول المليشيا الحوثية على هذا القطاع الحيوي الهام وإصرارها على العبث به من جهة، ومن جهة أخرى مؤشر عن عجز إدارات تلك البنوك عن مقاومة الضغوط الحوثية وممارسة مهامها المصرفية وفقاً للقوانين المنظمة المحلية والدولية للعمل المصرفي بما يحافظ على سلامة القطاع المصرفي وعلى حقوق وأموال المواطنين، مما قد يعرض تلك البنوك وإداراتها لإجراءات قانونية صارمة من قبل البنك المركزي”.
وفي جزئية من إدانة مركزي عدن “يدعو إدارة البنوك وفروعها للالتزام بضوابط العمل المصرفي وعدم الرضوخ لضغوط المليشيات واتباع تعليماتها تفادياً لخضوعها للإجراءات العقابية”.
في ضوء ذلك أكد رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مصطفى نصر أن القرار خطير ومحوري في تأثيره على النشاط المصرفي في مناطق سيطرة جماعة الحوثيين حيث سيعمل على عزل القطاع المصرفي في مناطقها.
وأشار مصطفى نصر في منشور له على صفحته “فيسبوك” أن السماح لفروع البنوك الستة بالعمل في مناطق الشرعية يعطيها فرصة نجاة جزئية من الانهيار الكامل والاستمرار في تقديم التزاماتها للمواطنين.
ويهدف قرار المعبقي إلى استعادة البنك المركزي للسيطرة والتحكم بالسياسة النقدية بحيث يشكل عاملا مساعدا يمكن البنك من القدرة على ضبط سعر الصرف والذي يتطلب معطيات أخرى تتمثل بحصوله على واردات من النقد الأجنبي الذي يكاد شبه منعدم بسبب وقف تصدير النفط نتيجة تهديدات الحوثي وقصفه موانئ النفط الجنوبية.
قرارات البنك المركزي الأخيرة قطعت اتصال الحوثيين بالعالم من الناحية المالية كما أدت إلى تجفيف العرض النقدي الدولاري الذي كان يتدفق عبر الحوالات الدولية لمناطق سيطرته سابقاً كونها لم تكن تستهدف البنوك بحد ذاتها بل اقتصاد الجماعة الحوثية التي استفادت من القطاع المصرفي منذ انقلابها في تهريب الأموال وتمويل السلع وحتى في استيراد قطع غيار الأسلحة والطائرات المسيّرة.
إن سحب البساط من المليشيا بالنسبة للبنوك له تبعات عدة أولها قطع الاتصال مع العالم في الجانب المالي بحيث تصبح عاجزة عن إجراء حوالات قانونية ضمن النظام المالي العالمي بينما الأمر الثاني هو أن معظم الحوالات الواردة من الخارج كانت تصل إلى مناطق سيطرة الحوثيين التي تضم وكلاء التحويلات الدولية الرئيسيين مثل ويسترن يونيون وموني غرام وغيرهما إلا أنها بعد هذه العقوبات ومنع الحوالات الدولية سوف تتحول كل الحوالات الواردة إلى مناطق الشرعية وبالتالي لن يكون لدى الحوثيين أي عرض نقدي من الدولار سوى ما يتم تحويله من مناطق الحكومة الشرعية ما ضاعف الصراخ لدى الحوثيين لعلمهم مدى تأثير ذلك فيهم.
وشدد المعبقي الذي عُيِّن محافظاً للبنك المركزي في ديسمبر 2021، خلال تصريح فور إصدار القرار رقم 20، على أن القرار سيادي ذو طابع نقدي ومصرفي ولا علاقة له بالوضع الإقليمي أو الدولي.
وأشار إلى أن أخطر الانتهاكات والتجاوزات الإقدام على سك عملة مزورة بواسطة كيان غير شرعي ولا قانوني وإنزالها للتداول، وهنا بات محتماً على البنك المركزي وضع حد لهذه الانتهاكات الصارخة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو ما لقي تفهماً ودعماً إقليميا ودوليّا.
في الوقت الذي كانت فيه قرارات البنك المركزي تعبر عن جدية العمل في الاصلاحات الاقتصادية والمصرفية الشاملة وإدارة السياسة النقدية وحماية القطاع المصرفي والمودعين ومعالجة سعر الصرف مراعاة للوضع الاقتصادي السيء في العاصمة عدن والمحافظات الجنوبية رافقه ترحيبا ودعما وتأييدا شعبيا من مختلف فئات المجتمع الأكاديمية والاقتصادية والسياسية وعامة الشعب ورواجا إعلاميا مناصرا تأملوا المضي قدما فيها والدفع بها نحو الأمام وعدم العدول عنها أصبح إلغاءها والتراجع عنها بضغوطات إقليمية ودولية بين ليلة وضحاها إنتكاسة حقيقية تعكس ذات الطابع تحت ذريعة الظروف الانسانية الصعبة التي يعيشها ابناء الشعب اليمني في المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيات الحوثية وتحت ذات المسمى لإصدارها تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والمصرفية الشاملة واستجابة لالتماس مجتمع الاعمال الوطني مع ما صاحبه من ترحيب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومعهما الأمم المتحدة بتراجع الشرعية والبنك المركزي عن القرارات الاقتصادية الأخيرة.
فجأة مني الشارع الجنوبي بخيبة أمل كبيرة وانكسار في عموده الاقتصادي إثر خضوع المجتمع الدولي للابتزاز الحوثي وممارسة الضغوط الدولية والاقليمية لثني البنك المركزي عن المضي في تنفيذ قرارات نقل البنوك التجارية من صنعاء اليمنية إلى العاصمة الجنوبية عدن على الرغم من رفض محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي التجاوب مع هذه الضغوطات التي تزعمها مبعوث الأمم المتحدة هانس غروندبرغ برسالة إلزامية إلى رئيس مجلس القيادة الرئاسي ومحافظ البنك المركزي بعدن بالتراجع عنها إرضاء ودعما للمليشيات الحوثية حتى تظل خنجرا في خاصرة الجزيرة العربية.
في غضون ذلك أعلن محافظ البنك المركزي أحمد غالب المعبقي تقديم استقالته بعد ساعات قليلة من تراجع الحكومة عن قرارات البنك بحق بنوك تتواجد في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي وقرارات اقتصادية أخرى.
وقال محافظ البنك في بيان أصدره: “نتفهم حيثيات القرار الذي اتخذه المجلس في إشارة إلى (مجلس القيادة الرئاسي) للتعامل مع الوضع الاستثنائي التي خلقته المليشيات واستجابة لجهود شقيقة وصديقة لنزع فتيل الأزمة”.
وأضاف: “على ما تقدم وبالنظر إلى كل المعطيات القائمة والمتوقعة، فإني أطلب من مجلسكم الموقر قبول استقالتي كمحافظ للبنك المركزي شاكراً دعمكم وتفهمكم ومعتذراً عن أي إحراج سببته لكم”.
إلى ذلك أُخلى محافظ البنك المركزي بعدن أحمد غالب المعبقي شقته السكنية في مبنى البنك في العاصمة عدن من كل متعلقاته الشخصية بعد أن تراجع المجلس الرئاسي عن قرارات البنك المركزي الأخيرة تمهيدا لتعيين محافظ جديد خلفا له بما يؤكد إصراره على الاستقالة.
بعد الغاء القرارات الصادرة عن البنك المركزي بعدن في اجتماع مجلس القيادة الرئاسي بإشراف سفيري السعودية والإمارات وإلزام الشرعية بتنفيذ ما يلي من بنود:
1) الغاء قرارات البنك المركزي وعدم (العودة لها) في إشارة إذلال إلى عدم تكرار مثل تلك القرارات المالية مستقبلا.
2) إستئناف رحلات طيران اليمنية من مطار صنعاء الى وجهات جديدة منها الهند وتركيا.
3) عقد اجتماعات لحل اشكاليات الشركة ومكتبها الرئيسي في صنعاء وهذا اول الخيط للإمساك بشركة الطيران والتحكم برحلاتها .
4) التباحث فيما تبقى من ملفات سياسية واقتصادية ضمن خارطة الطريق.
فيما لم يتم إجبار الحوثي بالالتزام بأي بند يحقق مكاسب لصالح الشرعية ولا حتى في عملية تصدير النفط والغاز .
على ذات الصعيد أكد مسؤولان لـ «الشرق الأوسط السعودية» أن الحوثيين غير جادين ويسعون إلى تحقيق مكاسب اقتصادية فقط والحصول على رواتب الموظفين في مناطق سيطرتها لامتصاص النقمة الشعبية الواسعة ويرغبون في الحصول على حصة من عائدات تصدير النفط دون مقابل أو تقديم تنازلات فعليه تخدم مسار السلام فيما يتعلق بقرارات البنك المركزي وخارطة الطريق.
إشكالية تدور حول نفسها تفرضها عوامل المرحلة وتترك الإجابة عليها للفراغ.
كيف ننظر إلى مكاسب البنك المركزي بعدن من حيث إصدار القرارات وإلغاءها؟ وهل منحت القرارات جماعة الحوثي طابع الاعتراف الضمني على حساب اقتراب تفكيك الشرعية؟
وصف الكاتب والصحفي الجنوبي خالد سلمان التراجع المخزي والوهن الذي يعتري الشرعية بقوله “تمخضت الخطابة الشرعية المؤيدة لقرارات البنك المركزي بحماسة مفرطة، وفي وقت الجدية لم تلد شيئاً سوى الخيبة الشعبية، وعض أصبع الندم لدعم الرأي العام لها والرهان على قرارات من لا يملك قراره، والإلتفاف خلف حكومة صورية تُدار من خارج سياج وحدود الوطن”.
وأضاف سلمان “العملة تنهار، الفقر يطحن الناس والطبقة الوسطى يتم تدميرها، والمجتمع يمضي نحو ثنائية الفقر المدقع للأغلبية والغنى الفاحش للأقلية المرفهة، لدينا أوليغارشيا غير منتجة، تستثمر في بيع الولاء المدفوع الثمن للخارج، وفي التربح المريع من وظائفها السياسية العليا ونهب خيرات وثروات البلاد، ووسط هذا الفرز بين الجوع والثراء، لاشيء يبدو في الأفق سوى إنفجار إجتماعي يطيح بالجميع، ويتلمس خارج كراكيب الحكم وفساد الساسة عن عدل وغدٍ أفضل”.
مثلت القرارات الاقتصادية الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي بعدن عصا غليظة لو تمسكت بزمامها الشرعية تستطيع الضرب بها متى شاءت وتمكنها من إصابة العمق الاقتصادي للمليشيا وانتزاع تنازلات عديدة لو تم حمايتها وإبقاءها واستخدامها بذكاء كورقة ضغط ستحقق أهدافا استرايجية.
النقابي الجنوبي/خاص

تم إرسال رسالتك



