اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.
أدب وثقافة

أن تكتب امرأةٌ من داخل الصندوق.. قراءة في “وإن مت، فلا تصنعوا لي قيدًا آخر” لبسمة نصر

قراءة وتحليل/ السميفع أشوع

 

 

في نص شعري مشبع بالحزن الهادئ والوجع المكبوت، تفتح الكاتبة بسمة نصر نافذةً على أعماق ذات أنثوية مأزومة، تتحرك داخل جدران مجتمعية خانقة، لتقول في سطرها الأخير: «ربما هناك فقط… سأكون بخير». لكن السؤال ينهض على الفور: لماذا لا تكون بخير “هنا”؟ وما هذا “الصندوق” الذي لم تغادره حيّة، وترجو ألا تعود إليه ميتة؟

 

 

وجع لا يُرى.. لكنه يُصاغ

 

 

ليست الكاتبة هنا بصدد شكوى شخصية، بل ترسم خريطة لزمن ثقيل، عاشت فيه داخل قوالبَ جاهزة، وأحكامٍ مسبقة، ووصاياتٍ ثقافية. تقول:

«لم يكن ذنبي حينها، لكنهم ما زالوا يؤذونني»،

وهي بذلك تُبرز آلية الوصم الاجتماعي، لا بوصفه نتيجة لفعلٍ ما، بل كمنظومة ثقافية تُسقط الخطأ على الأضعف، وتُخلِّد العقوبة، وتُجرِّم حتى الألم.

 

المرأة هنا، تمثل حالة أنثوية جمعية في مجتمعات محافظة، تُحاكم على النوايا، وتُدان بأثر رجعي، وتُطالب بالصمت إن تألمت، وتُعاقب إن تحدّثت. يتكثف هذا في صورة السجن الرمزي:

«يحكمون على روحي بالمؤبد، باسم خطأ لم أرتكبه».

 

 

الصندوق: استعارة الوجود القسري

 

 

واحدة من أكثر الاستعارات كثافة في النص هي تلك المرتبطة بـ”الصندوق”:

«لا تضعوني في صندوق، فقد عشت حياتي كلها داخله».

ليس هذا صندوقًا ماديًا، بل هو قالب ثقافي: ذلك الذي تُحبس فيه الذات، وتُقيَّد فيه الخيارات، وتُفرض فيه الأدوار، ويُكبت فيه التعبير.

 

الصندوق هنا يرمز إلى السردية النمطية للمرأة في مجتمعات شرقية – حيث تكون مقيدة بصمت، مراقبةً بأحكام العرف، مقصيةً عن اتخاذ القرار، ومحكومة بثنائية “الشرف والعار”، وهو ما تكثّفه الكاتبة في عبارة:

«لم أختر شيئًا».

 

 

رمزية الرماد.. والعودة إلى الحياة

 

 

تطلب الكاتبة في وصيتها المتخيلة:

«انثروا رمادي في البحر… حيث لم أُمنح فرصة أن أكون».

وتلك استعارة رقيقة وموجعة للتحرر من قيد الجسد، ومن قهر الواقع، في لحظة يفترض أن تكون خاتمة، لكنها هنا تحوي بذور بداية متخيلة: حياة لم تُعش، وخيارات لم تُمنح، وكينونة لم يُعترف بها.

 

في هذا الطلب تكمن صرخة وجودية، لا ضد الموت، بل ضد الحياة التي عاشت فيها كما لو كانت ميتة.

 

صوت فردي بلغة جماعية

 

 

ورغم أن النص يبدو صوتًا فرديًا، إلا أنه يُعبّر عن وجدان جمعي لأنثى عربية محاصَرة. إنه تمثيل أدبي لمأزق بنيوي تعاني منه ملايين النساء اللواتي يعشن داخل “الصندوق” ولا يملكن حتى كتابة الوصية.

 

إنه أيضًا خطاب احتجاج ناعم ضد مؤسسات متعددة: العائلة، المجتمع، الأعراف، لكنه يفعل ذلك دون صراخ، بل بلغة مضمّخة بالجَمال والبُكاء.

 

استدعاء القارئ كـ “مُنقذ غائب”

 

 

في لحظة ذروة من النص، تقول:

«تمنيت لو أن يدا تلتقطني حين سقطت، لو أن أحدهم سمع صمتي… وأنقذني».

بهذا، تستدعي الكاتبة القارئ كمشارك، لا كمتلقٍ فقط، وتضعه أمام مسؤوليته الإنسانية: لماذا لم نسمع؟ لماذا لم نمد يدًا؟

وإن لم يكن في وسعنا الإنقاذ في النص، فهل يمكننا الإنصات خارجه؟

 

 

نص “بسمة نصر” ليس مجرد تأمل في الألم، بل بيانٌ شعري ضد القيد، وضد موتٍ بطيءٍ اسمه العيش ضمن الحدود الجاهزة. إنها تكتب عن الحق في أن تُرى، أن تُسمع، أن تُختار الحياة، لا أن تُفرَض عليك. وفي عالم مليء بالصناديق، تظلّ الرغبة في التلاشي في الهواء الطلق، وسط الورود، صرخة ضد الانقراض الهادئ للذات.

 

 

 

 

الرمز والمعنى

 

الصندوق: قيد المجتمع، قبر الدور المفروض، تقاليد خانقة

 

الرماد في البحر: تحرر، انعتاق، ميلاد متأخر

 

الليل: مأوى الحزن، شاهد الصامتين.

 

السكين في الظهر: خيانة المجتمع، طعنات الأهل باسم المحبة

زر الذهاب إلى الأعلى