اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.

رواية “تحت الطاولة” الفصل الثالث: الحقيبة السوداء.. مجرد تحديث؟

 

كتب/ بسمة نصر

 

في الساعة الثالثة عصرا وصلت إلى المحل.
لم يكن قد فتح بعد.

وقفت أمام الباب الموصد، تحت شمس خانقة، تتثاءب المدينة من حرارة مايو.
اتصلت بالأرقام المطبوعة على بطاقة العمل… لا أحد يرد.
لا المهندسة، ولا ابنة خالتها، ولا حتى صاحب المحل.

مرت نصف ساعة من الانتظار.

جاءت فتاة شابة بملامح مستعجلة، وسألت:
“أين الموظفة؟ كنت أريد برمجة الجهاز”!

أخبرتها أن الموظفة غالبا ستأتي بحلول الرابعة.
قالت:  “كنت فقط أريد تثبيت تطبيق واتساب…”

قلت بلطف: “إن كنتِ مستعجلة، أقدر أساعدك أنا. ما يحتاج تنتظري”.

فرحت وقالت:  “تمام.”

طلبت منها أن تشتري كرت شبكة، فذهبت وعادت سريعا، ومعها الكرت.
جلسنا على طرف العتبة، وبرمجت لها التطبيق.
شكرتني كثيرا، وحاولت أن تعطيني مبلغا، لكنني ابتسمت وقلت: “هذا مو شغل المحل. أنا فقط ساعدتك كإنسانة”.

أصرت بلطف، لكنني رفضت.
غادرت وهي تجرّ خلفها ظلا من الامتنان.

في الساعة الخامسة بعد العصر، فتح باب المحل.

وفي تمام السادسة إلا ربع، عادت نفس الزبونة.
لكنها لم تأت لتبرمج، بل لتعطيني عبوة عصير بارد، وقالت: “هذا أقل شيء… شكرا لأنك ساعدتني”.

ابتسمت من قلبي، ما كانت تعلم أن هذا الموقف، رغم بساطته، سيبقى ترياقا لي…

في يوم سيتحول فيه كل شيء إلى خيبة.

وأنا أضع العبوة في الثلاجة، دخلت امرأة أخرى…
امرأة اربعينيه لا تشبه الزبونات المعتادات.
أناقتها صارخة، حقيبتها سوداء لامعة، كأنها صممت للملوك.

وقفت أمامي بثقة، وسألت بلغة المحامين لا الزبائن: “معي جهاز آيباد مهم جدا، وأريد فقط تحديثه. لا أريد أن يمس أي شيء فيه”.

ابتسمت وقلت، بروحي المرحة المعتادة:
“إيش الجمال ده؟ أكيد حضرتك محامية… الهيبة كلها طالعة منك”!

ضحكت بلطف، وقالت: “أعرف أنها مجاملة، لكني أحببتها منك. ما اسمك”؟

قلت: “نيسان.”

قالت: “تشرفت بك، نيسان.”

أخذت الجهاز، وذهبت به إلى المهندسة.
نظرت المهندسة إلى الكاميرا، ثم إلى الآيباد، وقالت ببرود: “هذا بيجلس عندنا يوم كامل… وبعدين نحدد السعر. سجلي اسمها ورقمها… وأعطيها فاتورة”.

عدت للسيدة وأخبرتها.
قالت بنبرة قانونية صارمة: “لو انحذف أي شيء من جهازي، أو لم يحدث كما طلبت… سأحاسبكم قانونيا”.

طمأنتها: “بس تحديث بسيط، إن شاء الله ما يصير إلا خير”.

أعطيتها الفاتورة، وكتبت اسمها ورقمها.
عادت المهندسة وأخذت الآيباد. كان الجهاز مغلقا.
لكن ما إن وصل بالسلك الأبيض… حتى اشتغل من تلقاء نفسه.
وانعكس وميض الشاشة على وجه المهندسة.

نظرت من مقعدي خلف الكاشير.
لا أعلم ما الذي فعلته، لكنني رأيت الانعكاس…
تلك اللحظة التي يسحب فيها شيء لا يجب أن يسحب.

المهندسة والمهندس كانا يتصرفان كأن الأمر معتاد.
لكن هذه المرة… كان الحذر مضاعفا.

في اليوم التالي، عادت السيدة بذات الأناقة.
قيل لها إن الجهاز سيبقى حتى الحادية عشرة ليلا.
سألت عن السعر:  “كم التكلفة؟”

قالوا: “300 دولار”.

لم تجادل. فقط قالت:  “تمام.”

ثم طلبت مني المهندسة: “خدي أول شيء الفلوس، بعدين سلميها الجهاز.
خدي الورقة، وارفقيها مع الفلوس، وحطيها في الدرج”.

نفذت ما طلبته.

في نهاية اليوم، غادرت الفتاة الأخرى، ثم المهندسة، ثم ابنة خالتها.
وبقيت أنا… لأنني من استلم الجهاز، ويجب أن أُسلمه.

انتظرت حتى الساعة الحادية عشرة ليلا.
سلمت الجهاز، واستلمت الفاتورة والفلوس.

وكل الطريق إلى البيت، كنت أردد في داخلي:  “هؤلاء لا يستحقون الثقة.
ما ذنب زبونة تدخل بثقة… وتخرج محطمة بلا علم”؟

 

وفي دفتري الليلي كتبت:

“ثمن الأمانة صار أرخص من سلك أبيض.
وحقيبة سوداء قد تخرج يوما ما ملفات كاملة…
لا تخص تحديث نظام، بل فضح نظام كامل”.

زر الذهاب إلى الأعلى