زيارة الرئيس الزُبيدي لموسكو.. تعزيز الدبلوماسية الجنوبية وبناء جسور استراتيجية

النقابي الجنوبي/خاص
وصل الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي ونائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، إلى موسكو أمس، في خطوة تشكل مرحلة دبلوماسية مفصلية للجنوب. الزيارة ليست مجرد بروتوكول رسمي، بل هي إعلان قدرة الجنوب على الانخراط في حوارات استراتيجية تؤثر في مستقبل المنطقة، خاصة في ظل التعقيدات السياسية والأمنية التي تعيشها اليمن والمنطقة عموماً. منذ لحظة وصوله، بدا المشهد الافتتاحي مشحونًا برسائل سياسية دقيقة، تعكس جدية المجلس الانتقالي في تقديم موقفه بثقة ومسؤولية على المستويين المحلي والدولي، وتبرز طموحاته في استعادة دوره كفاعل رئيسي على الساحة الإقليمية.
على الفور، عقد الزُبيدي لقاءً ثنائيًا مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وعدد من كبار المسؤولين، حيث تناول اللقاء العلاقات التاريخية بين موسكو وعدن، وآفاق تعزيز التعاون في مجالات متعددة، بما في ذلك السياسية، الاقتصادية، الأمنية، والإنسانية. وقد ركزت المحادثات على آخر المستجدات في الجنوب واليمن عامة، بما يشمل التطورات الأمنية، آثار النزاع المستمر على المدنيين، وضرورة دعم مسارات السلام المستدامة. وشدد الزُبيدي على خفض التصعيد كشرط لأي مسعى للسلام، مؤكدًا أن حماية الجنوب تمثل أولوية استراتيجية للمجلس، وأن أي حل سياسي شامل يجب أن يحترم حقوق شعب الجنوب وتطلعاته في استعادة دولته.
كما رحب الزُبيدي بالخطوة الروسية المرتقبة لفتح سفارة في عدن، وهو ما يشكل مؤشرًا مهمًا على الاعتراف بمكانة الجنوب السياسية، ويؤسس لمرحلة جديدة من الانخراط الدولي المباشر في شؤون الجنوب. من جانبه، أكد لافروف حرص موسكو على دعم جهود إحلال السلام وتعزيز الاستقرار في المنطقة، مشيرًا إلى عمق العلاقات التاريخية بين الشعبين والبلدين منذ عقود من التعاون المشترك والتفاهم الاستراتيجي، ما يتيح مجالًا واسعًا للتنسيق المستقبلي في مختلف الملفات السياسية والأمنية.
رافق الرئيس الزُبيدي وفد موسع من المجلس الانتقالي، يضم محمد الغيثي عضو هيئة رئاسة المجلس ورئيس هيئة التشاور والمصالحة، واللواء الركن هيثم قاسم طاهر رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية المشتركة، ومؤمن السقاف رئيس الهيئة التنفيذية للقيادة المحلية بعدن، والدكتور صالح محسن الحاج رئيس هيئة الشؤون الخارجية، وعِماد محمد مدير مكتب نائب رئيس مجلس القيادة. وعلى الجانب الروسي، حضر اللقاء كبار المسؤولين بينهم ألكسندر غروشكو نائب وزير الخارجية، ومكسيم مكسيموف نائب مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويوليا لابشينا رئيس قسم الخليج، إلى جانب مستشارين وسكرتارية متخصصة في الملفات الشرق أوسطية. حضور هذا المستوى الرفيع يعكس جدية موسكو في متابعة تطورات الجنوب ويؤكد رغبتها في بناء شراكة متوازنة على أساس المصالح المشتركة.
الزيارة تحمل أبعادًا استراتيجية متعددة، فهي تتيح للجنوب تعزيز حضوره السياسي الدولي، وإظهار قدرة المجلس الانتقالي على ضبط إيقاع الحوار الإقليمي، وفي الوقت نفسه تستثمر العلاقات التاريخية مع موسكو لبناء تحالفات قد تؤثر في موازين القوى المحلية والإقليمية. كما تفتح المجال أمام تعزيز التعاون الاقتصادي والإنساني، في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه الجنوب بعد سنوات من الصراع، بما في ذلك البنية التحتية، والخدمات الأساسية، واستقرار الأسواق. فتح السفارة الروسية في عدن ليس خطوة رمزية فقط، بل يحمل دلالات عملية على مستوى الاستثمار والتعاون الاقتصادي، بما يمكّن الجنوب من توسيع قاعدته الاقتصادية وجذب مشاريع تنموية تدعم الاستقرار الاجتماعي وتحسن حياة المواطنين.
من منظور سياسي، تُظهر هذه الخطوة قدرة الجنوب على أن يكون طرفًا فاعلًا في صياغة خياراته الاستراتيجية بعيدًا عن وساطة القوى الإقليمية التقليدية، وهو ما يرسل إشارات قوية للداخل والخارج حول جدية المجلس الانتقالي في حماية مصالح شعب الجنوب. هذه الديناميكية تبرز أن الحوار الدولي ليس وسيلة للحصول على اعتراف رمزي فحسب، بل منصة يمكن من خلالها الضغط لتسريع الحلول السياسية الشاملة، مع مراعاة خصوصية الجنوب وحقه المشروع في تقرير مصيره.
التاريخ السياسي للجنوب يعزز من أهمية هذه الزيارة؛ فالجنوب مر بفترات طويلة من تجاهل دولي نسبي بعد الوحدة اليمنية، وتعرض لاستنزاف سياسي واقتصادي خلال سنوات الصراع. لذلك، فإن أي تحرك دبلوماسي عالمي يربط الجنوب بالقوى الدولية لا يمثل مجرد اعتراف، بل هو فرصة لإعادة رسم دوره السياسي والتأثير على مسارات صنع القرار الإقليمي. ومن هنا، يمكن فهم هذه الزيارة كخطوة استراتيجية مزدوجة: أولاً لتعزيز شرعية المجلس الانتقالي ومكانة الجنوب على الساحة الدولية، وثانيًا للاستفادة من القوة الروسية كفاعل مؤثر في المنطقة لدعم خيارات الجنوب السياسية، بما يضمن تحقيق استقرار طويل الأمد.
التحليل السياسي يظهر أن موسكو، باعتبارها قوة مؤثرة دوليًا، تستطيع لعب دور محفز في إحلال السلام إذا تم التنسيق معها بشكل فعال، خاصة أن وجودها المباشر في عدن سيوفر قنوات للتواصل مع الفاعلين المحليين ويخلق آليات ضغط على الأطراف المعنية. هذا يفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة، بدءًا من استقرار نسبي في الجنوب وصولًا إلى مبادرات مشتركة لتعزيز التنمية وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
اقتصاديًا، يمكن أن تتيح الزيارة فرصًا حقيقية لتطوير البنية التحتية والاستثمار في مشاريع استراتيجية، بما في ذلك الطاقة والموانئ والخدمات العامة. هذا يضيف بعدًا عمليًا ملموسًا للمساعي الدبلوماسية، حيث لا يقتصر النجاح على الإنجازات السياسية فحسب، بل يمتد ليشمل تحسين حياة المواطنين وتعزيز قدرة المؤسسات المحلية على تقديم الخدمات الأساسية.
ختامًا، زيارة الرئيس الزُبيدي لموسكو تمثل فصلًا جديدًا في تجربة الجنوب الدبلوماسية، إذ تجمع بين الرسائل الرمزية والاستراتيجية الواقعية، بين الاستقرار الداخلي والانخراط الدولي، وبين تأكيد الهوية السياسية وفتح أبواب التعاون الدولي. إنها لحظة تحتاج إلى تأمل في طبيعة التحولات القادمة، ومدى قدرة الجنوب على ترجمة هذه الجهود إلى واقع ملموس يعيد له مكانته كفاعل مؤثر، ليس على خارطة اليمن فقط، بل على خريطة الاستقرار الإقليمي بأكمله. والسؤال المفتوح يبقى: هل ستنجح هذه الجسور الدبلوماسية في تحويل الطموحات السياسية للجنوب إلى واقع مستدام، أم ستظل مجرد خطوة أولى في مسار طويل من التحديات؟