تجنيد صامت.. كيف تعيد الجماعات المتطرفة إنتاج نفسها؟

النقابي الجنوبي/ خاص
بينما تحتفي الدول بانتصاراتها الأمنية على الجماعات المتطرفة، وتُعلن عن القضاء على خلايا نائمة أو تنظيمات مسلحة، ينمو الخطر الحقيقي في صمت. لا يحمل هذا الخطر رشاشًا ولا يرتدي زياً عسكريًا، بل يظهر في هيئة خطبة جمعة، أو منشور غاضب على وسائل التواصل، أو فصل تعليمي ديني داخل مسجد محلي.
هذا هو “التجنيد الصامت”؛ آلة جديدة لإعادة إنتاج التطرف، لا تقتلع الشباب من مجتمعهم بصخب، بل تزرع فيهم فكرة الجهاد والخلافة كحل أخير لواقعهم المرير.
في هذا التحقيق، نستعرض كيف تستعيد الجماعات المتطرفة أنفاسها عبر بوابة العاطفة والدين والشعور بالقهر، وكيف تبدأ عملية التجنيد المبكر من سن الطفولة، لتُعدّ جيلاً جديداً من المؤمنين الأوفياء، الذين قد يتحولون يوماً إلى قتلة باسم السماء.
هل مات التطرف أم تحوّل؟
هل ماتت الأفكار المتطرفة حقًا؟ أم أنها عادت متخفية في خطاب العاطفة والدين والكرامة لتعيد إنتاج الإرهاب عبر بوابة الشباب؟ تبدو الإجابة أقرب إلى التحذير من وهم الاستقرار، فبينما تنشغل الدول بانتصاراتها الأمنية، ينمو فكر الجماعات الراديكالية في الظل، متغذيًا على الأزمات الاقتصادية والانقسامات المجتمعية.
رغم ما تحقق من إنجازات أمنية في مصر ومحيطها منذ سقوط تنظيم الإخوان عن السلطة، إلا أن السكون الحالي لا يعني اختفاء الخطر. بل، وكما يحذر الكاتب الصحفي المصري خالد صلاح، فإن “ما يبدو اليوم هدوءًا على السطح، قد يخفي في طياته تحولات صامتة تزحف في صبر ماكر نحو مشروع إعادة تجنيد أجيال أخرى من الشباب”.
هذه العودة “الناعمة” للتطرف، كما يصفها محللون، لا تتخذ شكل الخلايا المسلحة كما في السابق، بل تبدأ من مواقع التواصل والتدوينات الغاضبة، مرورًا بخطاب ديني مموّه، وانتهاءً بإقحام مفاهيم مثل الجهاد والخلافة في لاوعي الجيل الجديد، ضمن مشروع طويل النفس لإعادة إنتاج التطرف بصورة مختلفة وأكثر خفاءً.
الهيكلية الناعمة للتجنيد.. شهادات وتحذيرات
تؤكد تقارير حديثة صدرت عن مؤسسة ماعت الحقوقية وجود قلق متزايد في أوروبا، لا سيّما في ألمانيا، من أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في أوساط اللاجئين، حيث يتم استقطابهم وتجنيدهم عبر جمعيات دينية واجتماعية تبدو “بريئة”. ونقلت المؤسسة عن أجهزة الأمن الألمانية وصفها للجماعة بأنها “أكثر خطرًا من داعش والقاعدة”، وهو توصيف يعكس التحوّل الهيكلي في أدوات الجماعة، من التنظيم الهرمي المباشر إلى الشبكة الاجتماعية غير المرئية.
في تقرير نشره موقع “العين الإخبارية”، أُشير إلى أن التنظيم يتركز في ولاية شمال الراين، ويقوده القيادي الهارب إبراهيم الزيات، الذي حُكم عليه غيابيًا في مصر. وتقول المؤسسة إن نوابًا في الحزب الديمقراطي الألماني طالبوا باتخاذ إجراءات حاسمة ضد هذا التنظيم الذي “يبني خلاياه في الظل”.
من جهة أخرى، تشير دراسات دولية إلى أن جماعة الإخوان تبدأ تجنيدها من سن التاسعة عبر “أنشطة اجتماعية ناعمة”، يتم من خلالها تلقين فكري تدريجي، يتطور لاحقًا إلى التزام تنظيمي. ووفقًا للباحث الأمريكي إريك تريجر، فإن عملية التجنيد داخل الجامعات تمر بمرحلة “التحسس والتقرب”، عبر أنشطة غير سياسية مثل كرة القدم والمساعدة في المذاكرة، لبناء علاقة ثقة تُمهد لاحقًا للتلقين العقائدي.
وفي شهادة صريحة، كشف الباحث المصري طارق أبو السعد، المنشق عن جماعة الإخوان، تجربته الشخصية، قائلاً: “استقطبتني الجماعة من خلال فصول تعليمية داخل المساجد تسمى ‘مدارس الجمعة’، وكانت تقوم على تجنيد عاطفي عبر الهدايا والاهتمام”. وأوضح أن التجنيد لا يستهدف عقل الطفل فحسب، بل وجدانه بالكامل، ليُنتزع لاحقًا من أي قدرة على التفكير الحر أو اتخاذ قرار مستقل.
الفخ المعنوي باسم الدين
في تحليله الجريء، يرفض الكاتب خالد صلاح أن تكون المواجهة الأمنية كافية، معتبرًا أن المشكلة الفكرية لا تزال قائمة، وتغذيها أساطير متجددة مثل شعار “الإسلام هو الحل” وسرديات البطولة الزائفة. ويرى أن هذه الجماعات تقدم خطابها بلغة “الروحانيات”، فتخاطب الغضب الاجتماعي والكرامة الضائعة، لتزرع في ذهن الشاب أن الجهاد ضد مجتمعه هو بوابته إلى السماء.
ويؤكد صلاح أن “العدو لا يطرق الباب، بل يدخل من نافذة القهر الاقتصادي وفقدان الأمل”، وأن مراحل التجنيد تبدأ من:
1. استدعاء الغضب الاجتماعي.
2. إثارة نعرات الكرامة المفقودة.
3. المقارنات بين تخاذل الأنظمة وصمود المقاومة.
4. التشكيك في الإعلام وتغذية نظرية المؤامرة.
5. التحريض على الجيش والدولة.
6. زرع أوهام “العصبة المؤمنة” كما صاغها سيد قطب.
7. الوصول إلى لحظة “التكليف بالقتل” تحت وهم الجهاد.
وفي رؤية جريئة، يدعو الكاتب إلى تفكيك الأسطورة المؤسسة، لا عبر السرديات البديلة، بل من خلال قراءة نقدية للتاريخ الإسلامي ذاته، تكشف كيف كانت “الخلافة” التي تُباع اليوم كيوتوبيا مثالية، مجرد نظام دموي تخللته اغتيالات وقمع وتوريث للسلطة باسم الدين.
“من يقرأ الطبري أو ابن كثير أو الذهبي، سيعلم أن ما يُقدَّم للشباب باسم الخلافة العادلة لم يكن سوى صراعات دموية وصراعات طائفية، لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي”، يضيف الكاتب.
قبل أن يبدأ الجيل الجديد بالقتل
إذا لم نبدأ الآن في مواجهة حقيقية لهذا النوع الجديد من التطرف — التطرف الذي يسكن المساجد دون أن يرفع سلاحًا، ويستغل الشعور بالمهانة دون أن يُطلق رصاصة — فإننا نبني استقراراً واهياً على رمال متحركة.
الحرب على الإرهاب لم تنتهِ، بل بدأت مرحلتها الأخطر: حرب الأفكار، وصراع الوعي، حيث يُصنع الإرهاب من كلمات، ويُغذى من شعور، ويُقنّن باسم الدين والحق والعدل.
وحتى لا نتفاجأ ذات صباح بأن جيلاً بأكمله قد انزلق إلى الفخ، علينا أن نبدأ اليوم: بخطاب ديني حقيقي لا يخلط السياسة بالإيمان، وبتعليم يحرر العقل لا يقيده، وبثقافة تُعيد للشباب معنى الكرامة دون أن تدفعهم إلى العنف.
لأن التجنيد مستمر… والمعركة الفكرية لم تبدأ بعد.
إعداد وتحليل: وحدة التحرير السياسي بموقع النقابي الجنوبي