اعلان كاك بنك صحيفة النقابي.
الجنوب في الصحافة العالمية

قضية الجنوب من منظار ذوي الأبراج الإسفنجية. 

 

د. عيدروس نصر. 

“الأبراج الأسفنجية” تختلف عن “الأبراج العاجية” فإذا كانت الأخيرة تستخدم للإشارة إلى المثقفين والإعلاميين وحتى رجال السياسة المتعاليين على الواقع، الذين يسهبون في التنظير وإرسال الأحاديث المنمقة والعبارات البلاغية عن قضايا الناس وهم معزولون عن أصحابها وعن معاناتهم، فإن “أصحاب الأبراج الإسفنجية” هم ليسوا فقط معزولين عن الناس وقضاياهم وآلامهم اليومية بل أنهم هاربون مشردون من ديارهم أو يعيشون تحت سياط تهديد ووعيد السلاليين العنصريين و(مشرفيهم)، ومع ذلك يسخر هؤلاء وأولائك أقلامهم وما يعتقدون أنها “أفكار” ليس لمهاجمة من شردهم من ديارهم واحتل منازلهم وأحرق بعضها وصادر البعض الآخر، ويربض على أنفاس المقيمين تحت سطوته، بل يسخر خؤلاء اقلامهم وصفحاتهم ومواقعهم الإلكترونية لمهاجمة ضحايا الظلم والقمع والتهميش بحجة الدفاع عما لا وجود له لا على الأرض ولا حتى في وجدان الناس المسمى بــــ”الوحدة اليمنية”.

تذكرت هذا وأنا أتابع ردود أفعال بعض الإخوة “المثقفين والكتاب” والنواب والسياسيين الشماليين إزاء مخرجات مؤتمر الحوار الجنوبي الذي انعقد في العاصمة الجنوبية عدن خلال الفترة (4-8 مايو 2023م)، أو بمناسبة 22 مايو.

أحدهم وزير سابق ويدّعون أنه مثقف مع إنه لم يكتب قط عن أي مفكر أو فيلسوف أو رائد علم أو حتى شاعر أو مسرحي أو فنان أو روائي عالمي أو عربي أو حتى محلي، ولم يقتبس قط نصاً فكرياً أو سياسياً من أي مرجع ثقافي أو فكري موثوق، أخونا هذا راح يسرد حكائية من صنع خياله عن حوار ساخن مع انفصالي قال إنه من الضالع ويسرد قصصاً وأقاويلَ ويحاول نكء جراحٍ جنوبية وشمالية ليقنع هذا الانفصالي بأنه يمني، ليطلع في الأخير أن هذا الانفصالي أمه من إب وأبوه من تعز، ولا أدري لماذا أرهق نفسه بكل هذا السيناريو الطويل والممل ليقنع الشمالي بأنه يمني، مع إن المشكلة ليست لا في أصل الأب ولا في أصل الأم، بل في مكان آخر يتحاشى سمو الوزير الوقوف عنده، وآخر بعث برسالة إلى مؤتمر القمة العربي يدعو أصحاب الجلالة والفخامة والسمو إلى اتخاذ موقفٍ صارمٍ ضد “الانفصال والانفصاليين” الذين قال إنهم بهددون بتمزيق اليمن، وليته قال حرفاً واحداً عمن حولوا الجمهورية إلى دولة سلالية عنصرية وراثية تخضع لنظام ولاية الفقيه.

ومثل هذين النموذجين كثيرون آخرون نوابٌ ووزراء ودبلوماسيون وقادة إداريون وحزبيون وصحفيون كلهم يتباكون على مصير “الوحدة اليمنية” ويحذرون من التهديد بتمزيق اليمن، والتباكي على المنجز العظيم الذي يقولون أنه كان حلماً لكل اليمنيين عبر التاريخ.
كل هؤلاء يتجاهلون جملة من الحقائق الماثلة لكل ذي عينين ويقفزون عليها، ومن هذه الحقائق على سبيل المثال لا الحصر:
1. إن الوحدة الاندماجية الطوعية التوافقية بين الدولتين (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية) التي قامت في 22 مايو 1990م لم يعد لها وجود حيث تم وأدها في حرب 1994م وما تلى ذلك لا صلة له بأي معنى لمضمون أي وحدة من أي نوع، بل هو احتلال و”استعمار” (بتعبير الجنرال علي محسن الأحمر).

2. إن إعلان الحرب على الجنوب مرة ثانية في العام 2015م وبمشاركة أحد الطرفين الموقعين على اتفاقية 30 نوفمبر وبيان 22 مايو، وما تلاه من تداعيات قد مثل خطوة عملية باتجاه الانفصال الكلي بين الغزاة وأصحاب الأرض التي تعرضت للغزو ولم يكن سوى امتدادٍ لحرب 1994م ومحاولةٍ لتكريس نتائجها التدميرية.

3. إن الوضع القائم اليوم في شمال اليمن والجنوب، هو عبارة عن دولتين حقيقيتين قائمتين بكل مقوماتهما، دولة في الجنوب ودولة في الشمال، . . . دولتين يتعامل معهما العالم على هذا الأساس بغض النظر عما إذا كان اسما الدولتين هو نفس الإسم “الجمهورية اليمنية” وبغض النظر عن حقيقة أن حكام الدولتين هم من أبناء الشمال الشقيق وبغض النظر عن مستوى اعتراف العالم بهذه أو تلك منهما.

4. إن الحربين العدوانيتين على الجنوب (1994م و 2015م) لم تكونا مجرد مواجهات مسلحة بين طرفين سياسيين او جغرافيين ومعسكرين وجيشين، ولم تكونا فقط عدداً من القتلى والجرحى، ولا حتى حربين أهليتين بين أبناء دولة واحدة، بل إنهما حربان عدوانيتان من دولة بجيشها وحكامها ونظامها السياسي، على أرض وشعب دولة أخرى، جرى احتلالها في الأولى وأعيد غزوها في الثانية، وفي هذا السياق يقفز “المدافعون عن الوحدة (الوهمية)” على حقائق الجراح النفسية والاجتماعية والتدمير المادي والثقافي والمعنوي لكل ما هو مدني وإنساني وحضاري على أرض الجنوب المعتدى عليها وعلى شعبها ويناقشون من اين أم هذا وجد ذاك ومن هو صهر زيد وعديل عمرو.
إن الذين يعبرون عن “خوفهم” على (الوحدة اليمنية) التي لم يعد لها وجود، إما يتعمدون تجاهل هذه الحقائق حتى لا يسألهم أحد عن مآلاتها ونتائجها الكارثية على الأرض في الجنوب، كما في الشمال، وإما إنهم يتصرفون بتعالي عن هذه الحقائق وازدراء لعقول قرارهم ومتابعيهم ويتحدثون عن أحلام ومسميات وهمية يعتقدون أن لها وجود على الأرض لأنهم لا يعيشون حياة الضحايا ولا يتألمون لآلامهم كثيفة الحضور ولا يفرحون لأفراحهم النادرة الحصول، ويكتفون بالحديث عن أحلامٍ كانت ذات يوم جميلة لكنها تحولت إلى جراحٍ غائرة في أعماق الوجدان الجنوبي وذكرى مؤلمة لا تختلف عن ذكرى النكبة عند الأشقاء الفلسطينيين قبل ٧٥ عاماً، أو ذكرى سقوط قرناطة عند عرب الأندلس ومسلميها قبل ما يقارب 800 عام.

ختاماً
تعجَّبتُ أشد العجب وأنا أقرأ بيان ما يسمى “تحالف الأحزاب اليمنية” الذي هنأ فيه المجلس الرئاسي بيوم 22 مايو وأشاد بقرار أعادة بعض الجنود والضباط الجنوبيين إلى أعمالهم، ولم يقل كلمة واحدة عن جرائم السلب والنهب وتدمير الدولة والاستحواذ على الثروات والموارد من قبل أساطين حرب 1994م ولا تعرض لفتوى التكفير وإباحة دماء وأعراض وأرواح الجنوبيين، هذه الفتوى التي مثلت برميل البارود الذي زاد الحرب على الجنوب اشتعالا وصعَّد أوارها حتى أدت إلى ما أدت إليه من جرائم في حق الجنوب والجنوبيين.

إن هذا البيان بلغته البائسة ومفرداته التي استُهلِكِت على مدى عشرات السنين، وأسلوبه الذي لا يلامس شيئا مما يعيشه أبناء الشعبين في الجنوب والشمال من آلام ومعانات، إنما يكشف حالة الإفلاس السياسي والشيخوخة الذهنية والفكرية والسياسية بل والجسدية التي تعيشها تلك الأحزاب العاجزة عن فعل أي شيء له قيمة على واقع الناس وحياتهم اليومية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى